أثارت النقاشات التي دارت هذه السنة بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، وخاصّة تلك التي دارت حول "إعلان هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات حول حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين"، عدّة مسائل تهم أوجها مختلفة من واقع النساء في تونس وآفاق تحررهن من الميز الذي تعانين منه. وسأتعرّض في هذا الملحق لبعض تلك المسائل لاستكمال أو دعم الأفكار والآراء التي أوردتها في مداخلتي في إطار "هيئة 18أكتوبر" وتتعلق هذه المسائل بـ:
1 - بعض الأفكار الشائعة حول تحرر المرأة.
2 - النساء والأخلاق والحب والجنس والعائلة.
3 – التاريخ والنسبية وأحكام الشريعة.
4 – العلمانية والهوية والوطنية.
1 - بعض الأفكار الشائعة حول المرأة
من الأفكار الشائعة في صفوف الرجال في تونس أنّ النساء حصلن على "حرّيتهن وزيادة" وأصبحن في وضع أفضل من وضع الرجال بل إنهن أصبحن "يستعمرن الرجال" "ويضطهدنهم" وأن الرجل هو الذي صار في حاجة إلى "جمعية للدفاع عن حقوقه". ومن البديهي أن هذه الأفكار لا أساس لها من الصحّة. فالنساء التونسيات ما زلن بعيدات عن تحقيق المساواة التامّة بينهن وبين الرجال سواء على الصعيد القانوني أو على صعيد الواقع والممارسة. فهنّ عرضة للميز والاضطهاد كما بيّنتُ ذلك في مداخلتي في الندوة التي عقدتها "هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات" في مطلع شهر ديسمبر الماضي. ولكن ما الذي يشوش الوضع ويخلق الانطباع لدى فئات من الرجال من مختلف الطبقات الاجتماعية بأن ما حصلت عليه النساء من مكتسبات جزئية يمثل مغالاة في الحريّة غير مقبولة ومن ثمّة يشتدّ العداء لهنّ من تلك الفئات التي لا تخفي رغبتها في أن يحلّ في يوم ما نظام "يكسر شوكتهن" ويعيدهنّ إلى "جحورهن"؟
أعتقد أن أحد أهم الأسباب هو هشاشة المكتسبات التي حققها النساء. هذه المكتسبات ليست مسنودة بأرضية اقتصاديّة واجتماعية وثقافية وسياسية صلبة ترسّخها وتطوّرها في اتجاه تحقيق تحرر النساء التونسيات تحريرا كاملا على أساس من المساواة قانونا وممارسة. فلنأخذ تشغيل النساء مثلا. إن خروج هؤلاء إلى الشغل لم يندرج ولا يندرج في إطار إستراتجية تهدف إلى تحرّرهن. فقد وقع إخراجهن إلى سوق الشغل كقوّة عمل قصد استغلالهن، وهو ما جعل وضعهن في الشغل هشّا، والشاهد على ذلك ما قدمته في مداخلتي المذكورة من نسب وأرقام حول شغل النساء تؤكد ضعف نسبة الناشطات منهن وهشاشة الأعمال والوظائف التي يقمن بها وضآلة وجودهن في مواقع التسيير وضعف أجورهن مقارنة بأجور الرجال وتعرّضهن للطرد في أوقات الأزمات وتفشي البطالة في صفوفهن وتشريع عمل النساء نصف وقت، الخ. وقد سعت البرجوازية التونسية إلى الحفاظ على تلك النظرة التقليدية المتخلّفة لشغل المرأة باعتباره أمرا ثانويا، غير ضروري لها ولنهضة المجتمع وفي أفضل الحالات "مكمّلا" لشغل الرجل. ومن هذا المنطلق، ظلت العقلية العامة تنظر إلى المرأة على أنها تنافس الرجل في ميدان الشغل وتحمّلها مسؤولية بطالته خاصّة في مثل هذه الظروف التي تتفاقم فيها البطالة بشكل غير مسبوق وتحكم على مئات الآلاف من الأشخاص بالفقر والإملاق، عوض تحميلها للنظام الاقتصادي الاجتماعي البرجوازي المتخلّف، الذي يولّد بطالة الرجال والنساء على حدّ السواء.
وإلى ذلك فإن شغل النساء ليس مسنودا بخدمات اجتماعية تحرّرهن من عبودية البيت، ومن توزيع الأدوار التقليدي، النساء للشؤون المنزلية وتربية الأطفال والرجال لـ"خارج البيت" أي للشغل والشأن العام. وأقصد بالخدمات الاجتماعية المحاضن ورياض الأطفال والمطاعم في أماكن العمل (الكنتينات) والغسّالات العمومية وغير ذلك من الخدمات غير المتوفرة للنساء العاملات والأجيرات وحتى إذا توفـّرت فبأسعار لا يقدرن عليها (المحاضن ورياض الأطفال). كما أن الدولة لا تتخذ من الإجراءات ما يشجّع الأزواج أو يحملهم على تحمّل مسؤولية البيت والعائلة مع زوجاتهم. وأقصد هنا مسألة التنصيص دستورا وقانونا على المسؤولية المشتركة للزوجين في تحمل أعباء المنزل وتربية الأطفال وتمكين الأزواج من عطلة أبويّة للعناية بالأطفال إضافة إلى تمكين النساء الحاملات من عطلة ما قبل الولادة في القطاعين الخاص والعام. ومن البديهي أن غياب مثل تلك الخدمات الاجتماعية والإجراءات التشجيعية من شأنه أن يؤدي إلى ترك النساء الشغل والعودة إلى البيت للعناية بأزواجهن وأطفالهن وبأفراد العائلة الآخرين. وهو ما يؤكد النسبة الضعيفة للنساء المتزوجات من بين النساء العاملات والناشطات عموما. كل هذه العوامل تجعل خروج النساء إلى الشغل هشّا وقابلا للتراجع بهذه الدرجة أو تلك لأنه من الصعب جدّا العودة الآن إلى الوراء لإرجاع كل أو معظم النساء العاملات إلى بيوتهنّ لما سيحدثه ذلك من خلل اقتصادي واجتماعي يصعب على أي نظام، حتى لو كان إسلاميا، تحمّله. وهذا الوضع الهشّ لشغل النساء يخدم بطبيعة الحال مصالح رأس المال المحلي والأجنبي المسيطر في بلادنا لأنه يُفسِح له المجال أولا لاستغلال اليد العاملة النسائية استغلالا فاحشا وثانيا للتخلص منهن وطردهن كلما عنّ له ذلك وخاصة في أوقات الأزمات. كما أن هذا الوضع يخدم نظام بن علي الذي لا يرى نفسه مجبرا على توفير الشغل للنساء باعتباره حقا من حقوقهنّ الذي يجب على الدولة الوفاء به.
أما من الجانب السياسي فإن الخطر على حريّة المرأة وحقوقها متأت، ليس من التيارات الرجعيّة التي تدعو إلى التراجع في مكتسباتها فحسب، بل من نظام بن علي ذاته الذي يُضعف تلك المكتسبات ويجعلها قابلة للطعن والمراجعة. فهذا النظام الاستبدادي يستعمل قضيّة المرأة لتلميع صورته، خصوصا في الخارج، والظهور بمظهر النظام "العصري الديمقراطي" الواقف في وجه التيارات الأصولية والذي يستحقّ بالتالي المساندة وغضّ الطرف عما يرتكبه من انتهاك منهجي للحريّات والمبادئ الديمقراطيّة. ولكي يتسنى لبن علي توظيف قضيّة المرأة، فهو يسعى إلى احتكارها ويعتبر نفسه الوحيد المخوّل له الخوض فيها وما على الآخرين، داخل الحزب الحاكم أو خارجه، إلا أن يصفقوا له ويهللوا بـ"القرارات الجريئة والرائدة" التي يتخذها، حتى لو كانت شكلية وجزئية وذات طابع ديماغوجي. ومن هذا الموقع لا يتوانى بن علي في قمع كل الأصوات الحرّة التي تنتقد أوضاع النساء في تونس وتطالب بإقرار المساواة التامة والفعلية بين الجنسين. كما أنه يمنع الجمعيات النسائية واللجان النسائية التابعة لهيئات مهنية ونقابية من النشاط الحر في صفوف النساء للارتقاء بوعيهن وتنظيمهن وتعبئتهن من أجل حقوقهنّ، وهو يسدّ أمامها أبواب وسائل الإعلام السمعية والبصرية والمكتوبة التي لا تتحدّث إلاّ عمّا يقوله ويقرره هو. إنّ هذا الأسلوب في التعاطي مع قضيّة النساء لا يسهم في تطوير وعي المجتمع بحقوقهن وحريتهن بل يغذّي بسهولة ردود الفعل الذّكورية، في صفوف فئات من الرجال بما في ذلك في الأوساط العمالية والشعبية، بل إن مثل ردود الأفعال هذه المعادية ظهرت وتظهر حتى في صفوف النساء المتأثرات بالأفكار الرجعيّة والواقعات تحت هيمنة التقاليد والعادات البالية.. إن أي خطوة جدّية تتخذ في نطاق السعي إلى تحقيق المساواة بين الجنسين ينبغي أن تكون محل نقاش عام وحر داخل المجتمع بمختلف مؤسساته وهيئاته وتنظيماته الحزبية والنقابية والنسائية والشبابية والثقافية بهدف شرح أبعاده وإقناع الناس به وخلق رأي عام حوله وترسيخه في الأذهان وتحويله شيئا فشيئا إلى جزء من الوعي والثقافة الاجتماعيين، ومن المنظومة التشريعية للبلاد بل إلى جزء من "الطبيعة الإنسانية" للتونسيات والتونسيين.
أما أن يتخذ هذا الإجراء أو ذاك بشكل فوقي، بيروقراطي لأغراض دعائية فإنه لا ينـْفـُذ إلى وعي الناس وعقولهم بل يبقى سطحياًّ، قابلا للتراجع خصوصا حين يكون المناخ الاديولوجي والاجتماعي العام غير ملائم. ولكن لا ينبغي أن يُفهم من هذا الكلام أن الإجراءات التي يتخذها نظام بن علي تتجاوز وعي التونسيين أوهم غير مستعدّين لتقبلها. طبعا لا. نحن نعتقد جازم الاعتقاد أن غالبية الشعب التونسي لا تعادي المساواة بين الجنسين وهي مستعدّة لتقبلها واستيعابها والاقتناع بها. لكن المشكل يتمثل في النظام الاقتصادي الاجتماعي الرأسمالي التابع والمتخلّف الذي يشوّه قضيّة تحرير النساء بإضفائه على هذا التحرير صبغة "سلعية/تجارية" أي تحرير المرأة كقوة عمل لتستغلها وتحرير جسمها كبضاعة لتباع وتشترى في "سوق اللّذة"، كما يتمثّل في طبيعة النظام الاستبدادية التي تجعله يقمع حريّة الرأي والتعبير ويوظّف قضيّة المرأة لتلميع صورته وفي طبيعته الاجتماعية المتخلفة التي تثقل كاهل النساء بالعمل المنزلي وتربية الأطفال ولا توفر لهن الخدمات الضرورية.
وأخيرا وفي ما يتعلّق بالجانب الإيديولوجي الثقافي فإن الأفكار التي ينشرها النظام القائم عبر البرامج الدراسية ووسائل الإعلام والمؤسسات الدينية والكتب والمنتجات الفنيّّة والثقافية لا تخدم في معظمها قضيّة تحرر النساء، بل تشوّهها وتعاديها. فصورة المرأة الضعيفة، الماكرة، الشيطانة، المغوية، بليدة الذهن، والأم الراعية للبيت والأطفال وفقا للتوزيع التقليدي للأدوار داخل العائلة، هي التي ما تزال مهيمنة في الكتب المدرسية والمنتوجات الثقافية والغناء ووسائل الإعلام. ولا يتوانى نظام بن علي في توظيف الدين لتبرير رفضه بعض المطالب التي يرفعها النساء مثل الإدارة المشتركة للعائلة التي شرّعها مثلا النظام المغربي في آخر تحوير لـ"المدونة" وهو نظام يعتبر مَلِكَهُ نفسه "أمير المؤمنين"، والمساواة في الإرث التي نادى بها مصلحون من أمثال الطاهر الحداد، خرّيج الزيتونة والذي لا يمكن أن يتّهم بـ"الإلحاد" ومعاداة الإسلام. كما يستعمل نظام بن علي المساجد والجوامع لإطلاق حملات تشهير وتشويه ضد النساء الديمقراطيات والتقدميات المطالبات بالمساواة، وتقديمهن في صورة النساء "المعاديات للإسلام" لطمس مشروعية مطالبهن.
ويلقى هذا الخطاب الرجعي المعادي لحرية النساء وحقوقهن سندا له في المادة الدينية والثقافية والسياسية التي تبثها الفضائيات العربية الممولة من أثرياء سعوديين وخليجيين حريصين على توظيف الدين لإبقاء المجتمعات العربية متخلفة لاستدامة سيطرتهم عليها، علما وأن أصحاب هذه الفضائيات التي تبث مثل تلك المادة الرجعية المتخلفة، هم الذين يبيعون أوطانهم للامبريالية الأمريكية لتنهب خيراتها وثرواتها النفطية ويهدرون كرامة شعوبهم ويمسخون ذاتيتها وهويتها. كما أنهم هم الذين يمولون فضائيات تشجع الميوعة والابتذال وتمجّد صورة المرأة البضاعة.
وخلاصة القول بالنسبة إلى هذه النقطة هي أن نظام بن علي يمثل خطرا حقيقيا على مكتسبات النساء في تونس وهو ليس مؤهلا لصيانتها فما بالك بدعمها وتطويرها وتحرير النساء التونسيات من الميز والاضطهاد. فهو بسياسته الاقتصادية والاجتماعية وباستبداده السياسي وبخطابه الثقافي المتخلف وتشريعاته التمييزية يضعفها ويخلق الأرضية المناسبة لوضعها محل سؤال من قبل التيارات السلفية الموغلة في الرجعية التي تعتقد أن الرجوع بالنساء إلى الوراء هو الذي سيخلصهن اليوم من شرور النظام الرأسمالي لذلك لا يمكن البتة للنساء ولأنصار تحررهن من الرجال أن يناموا ملء جفونهم ويذهب في اعتقادهم أن ما حققه النساء من مكتسبات لا رجعة فيه. إن إلغاء تعدد الزوجات، وإقرار حق المرأة في الطلاق والولاية المشروطة على الأطفال والتبني والاختلاط في المدرسة وأماكن العمل والفضاءات العمومية، وتولي النساء خطة القضاء والمشاركة في الحياة العامة، إن لم تكن مهددة جميعها بمراجعة كلية، فعلى الأقل جزئيا. وهو ما يدعو إلى ضرورة توسيع النضال وتجذيره من أجل المساواة الفعلية والتامة التي تقتضي نضالا لا هوادة فيه ضد نظام الاستبداد.
2 – المرأة، الأخلاق، الحبّ، الجنس، العائلة
من الأفكار الشائعة في المجتمع أيضا، ليس في صفوف الذكور فحسب، بل كذلك في صفوف جانب من الوسط النسائي، هو أن النساء سبب الأزمة الأخلاقية التي تنخر مجتمعنا. وهذه الفكرة خاطئة بالطبع، لا لأنها تحمّل النساء مسؤولية التدهور الأخلاقي في المجتمع فحسب بل لأنها أيضا تختزل هذا التدهور في بعض المظاهر السلوكية المتعلقة بالجانب الجنسي في العلاقات بين النساء والرجال (البغاء...) أو ما يعبّر عنه بعاميتنا بكلمة "لِفـْسَادْ".
إن التدهور الأخلاقي والقيمي في مجتمعنا أمر موضوعي لا يمكن أن ينكره أحد، بل إن محاولة نكرانه أو طمسه كما يفعل نظام الحكم للتنصّل من المسؤولية أو كما يفعل بعض "التقدميين" خوفا من السقوط في "الأخلاقوية" أو من صبّ الماء كما يقولون في طاحونة التيارات السلفية التي تتخذ من تدهور الأخلاق والقيم ذريعة للدعوة إلى الرجوع بالمجتمع إلى الوراء، لن يجدي نفعا، باعتبار أن ذلك لن يوقف التدهور الأخلاقي ولا توظيف التيارات السلفية والأصولية له بل إنه لن يخدم في نهاية الأمر إلا هذه التيارات لما يحدثه التدهور الأخلاقي من فزع داخل الطبقات والفئات الشعبية وهي محقة في ذلك.
إن الموقف السليم يقضي بضرورة الإقرار بوجود أزمة أخلاقية وقيمية. ولكن هذا الإقرار لا يكفي إذ لا بد من تحديد مظاهر هذه الأزمة والوقوف عند أسبابها الحقيقية والبحث عن كيفية التصدي لها ومعالجتها معالجة متجهة نحو المستقبل ونحو الأفضل. وهنا لا بد من ملاحظة أن الأزمة الأخلاقية والقيمية في مجتمعنا هي أوسع وأشمل من أن تختزل في بعض المظاهر المتعلقة بالأخلاق الجنسية للنساء والرجال وما اعتراها من تسيب وتبضيع. كما أنها أعمق من أن يحمّل النساء مسؤوليتها أو أن يزعم أن حلها يكمن بكل بساطة في تشديد القمع على النساء والرجوع بهنّ إلى الوراء.
لقد تعرّض حزب العمال في إحدى وثائقه الأساسية المنشورة في السنوات الأخيرة بعنوان "من أجل بديل ديمقراطي وشعبي" إلى الأزمة الأخلاقية والقيمية التي تنخر مجتمعنا وأسبابها. فأشار إلى تفشي القيم الفردانية على حساب قيم التضامن والتآزر. وأرجع ذلك إلى المناخ الاقتصادي والاجتماعي السائد، مناخ الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة، التي جعلت من اللهث وراء الربح والمصلحة الخاصة الغاية القصوى في الحياة. وهو ما أدى إلى تحوّلٍ هام في العلاقات بين الناس إذ أصبح المال هو المعيار الذي يَحْكُمُ العلاقات ويُعَيَّرُ به الأفراد. وفي علاقة بذلك أصبحت مواصفات الشخص "الناجح في حياته" تكمن في مدى قدرته على التحيّل والنهب والسرقة والإرشاء والإرتشاء لتكديس المال ولم يعد العمل والعلم والكفاءة والتفاني في خدمة الغير والمجتمع المعيار القيمي الذي يستخدم للحكم على الأشخاص.
وأشارت الوثيقة من جهة أخرى إلى انتشار الغش والكذب والنفاق والوشاية وإلى تفشي البذاءة وتلوث لغة الشبان والكهول وحتى الصبيان أحيانا في المنزل ومركز العمل والشارع الذي غاب فيه الحياء. وتراجع السلوك المدني في العلاقة بين الناس ليغلب عليها غياب الاحترام والعنف. وامتدت الأزمة الأخلاقية إلى العائلة سواء في علاقة الزوجين ببعضهما بعضا أو في علاقة الأبناء والبنات بالوالدين إذ أصبح التوتر والتمرد والاستهزاء التي تغذيها الثقافة الرسمية السائدة (مسلسلات، منوعات، كليبات...) هي التي تحكم تلك العلاقات ولا يجد الآباء من رد على هذا السلوك سوى استعمال أساليب العنف والتسلط لـ"ردعهم". وعلى صعيد آخر تفشت أخلاق العبودية بما تعنيه من خنوع للحاكم وأصحاب الجاه ومذلة واستسلام وهي كلها نتاج لـ"ثقافة الرعية" التي ينتجها الاستبداد. ولكن كيف تنعكس هذه الأزمة على النساء وعلى علاقتهن بالرجال؟
إن تشيئة المرأة وتبضيعها هما إحدى أهم سمات الواقع الاجتماعي في تونس اليوم وتمثلان أفظع نتيجة لهذه التشيئة وهذا التبضيع ما يمكن تسميته بـ"سوق اللذة" التي ظهرت إلى جانب "الأسواق الأخرى" إذ أصبح جسد المرأة يباع ويشترى مما أدى إلى انتشار ظاهرة البغاء في كافة الأوساط. ومن نتائج ذلك أيضا التكالب على الجنس إذ أصبحت العلاقة بين المرأة والرجل يسيطر عليها الجانب الجنسي، بل إن العلاقات الجنسية ذاتها فقدت جانبا كبيرا من بعدها الروحي، النفسي العاطفي، الثقافي الإنساني ليسيطر عليها الجانب الغريزي، الحيواني. وبالطبع عززت هذا الاتجاه القنوات التلفزية البورنوغرافية التي تذلّ المرأة وتدمّر عقول الشباب وتخرّب نفسياتهم وتفقدهم الكثير من إنسانيتهم.
ولكن لا ينبغي الخلط في تناول هذه المسألة بين ما يندرج حقا في مجال التدهور الأخلاقي في العلافة بين الجنسين وبين ما يندرج، خلافا لذلك، في مجال التطوّر الإيجابي، التقدمي للأخلاق الاجتماعية.
إن خروج النساء والفتيات إلى المدرسة والعمل واقتحامهن عديد الميادين واختلاطهن بالجنس الآخر، كل ذلك أدى إلى تحولات في شخصياتهن ونفسياتهن لا ينبغي النظر إليها كـ"علامات سلبية"، على غرار ما تروّج له التيارات السلفية والأصولية والرجعية عامة. فما اكتسبته المرأة مثلا من جرأة وقدرة على الدفاع عن ذاتها وحقوقها، ومن حرية في اختيار شريك حياتها أو الطلاق في حالة الفشل وربط علاقات عاطفية جديدة والجرأة على التعبير عن المشاعر والرغبات وعن الحق في علاقات عاطفية وجنسية متكافئة مع الشريك أو القرين والشعور بأن جسدها هو ملكها، ليس قابلا للبيع أو الشراء، أو أن لها كلمتها في إنجاب الأطفال بما في ذلك الحق في إيقاف الحمل لهذا السبب أو ذاك الذي يهمّ صحتها الجسدية أو النفسية أو غيرها من العوامل، وتمسكها بحقها في الشغل وفي كسب استقلاليتها المادية والمشاركة في إدارة شؤون العائلة وتقرير مصير الأطفال ورفض كافة مظاهر الإهانة من تعنيف ونيل من الكرامة وغير ذلك من الممارسات التمييزية، في كلمة تمسكها بالمساواة مع الرجل والكفاح من أجل ذلك، كل هذه المظاهر هي مظاهر تقدمية في حياتنا الاجتماعية، وهي وليدة التطور الاجتماعي الموضوعي، الذي لا تقدر على صدّه أية قوة. كما أنها تمثل تجاوزا للتقاليد والعادات الاجتماعية والثقافية البالية التي تعتبر المرأة أداة للمتعة والإنجاب بل متاعا من أمتعة الرجل وتـُعرّف المرأة الصالحة وفقا لمعايير الخنوع والخضوع والذل وانعدام الشخصية والتضحية بالحرية والحقوق من أجل الرجل صاحب كل الحقوق والامتيازات أي المرأة التابعة الذليلة. ولكن ينبغي الإقرار بأن تلك المظاهر الإيجابية والتقدمية هي بصدد التشوّه من جراء المناخ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي السائد الآن في بلادنا والذي تستغله التيارات الرجعية للهجوم على مكاسب النساء وتعمّد الخلط بين هذه المكاسب وبين مظاهر الانحلال والفساد الأخلاقيين والإيهام بأن تلك المكاسب هي مصدر ذلك الانحلال والفساد، والحال أن مصدرها آخر، يكمن في النظام الرأسمالي الليبرالي المتوحّش الذي يحكم العلاقات الاجتماعية في بلادنا ويؤثر أيما تأثير في الأخلاق والسلوك. وهنا يكمن التهديد الجدي الذي تمثله الدكتاتورية النوفمبرية، التي "ترعى" هذه العلاقات، لمكاسب النساء فهي التي تدمرها وتيسّر وضعها محل مراجعة.
إن مواجهة التدهور الأخلاقي في المجتمع لا يمكن أن تتم إذن بتجريم المرأة، وعقابها وإرجاعها إلى البيت أو "تحجيبها"، ولكن بمقاومة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى التدهور الأخلاقي كما أدت إلى إذلال النساء وتبضيعهن. فالمجتمع التونسي في حاجة إلى ثورة لا إلى ردة في الأخلاق، والنساء في حاجة إلى الحرية لا إلى الاستعباد، والعائلة التونسية في حاجة إلى أن تسود داخلها المساواة والعلاقات الديمقراطية، لا إلى التسلط والقهر والإخضاع.