لعله قد بات واضحاً بالفعل — بالمعيار الذي تم إقراره في هذا المقال — أن كثيراً من الأيديولوجيين والأنظمة التي ادعت الماركسية في المائة سنة الأخيرة ليست ماركسية على الإطلاق. وقبل الشروع في البرهنة على ذلك فيما يتعلق بأمثلة محددة، من الضروري أن نبدي بعض الملاحظات الأولية حول الموقع الاجتماعي للبروليتاريا ووعيها في ظل الرأسمالية.
تتجاوز البروليتاريا الرأسمالية بالإمكانيات الكامنة لديها، ولكن طالما استمرت الرأسمالية فإنها (البروليتاريا) تظل طبقة مضطهدة ومستغلة في الأوقات العادية، بالتالي تسيطر الأيديولوجية البرجوازية على وعي غالبية العمال (لأن الأفكار السائدة هي أفكار الطبقة الحاكمة) ولكن العمال في نفس الوقت مضطرون بحكم وضعهم الاقتصادي لمقاومة هجمات رأس المال والكفاح لتحقيق تحسينات في أوضاعهم حتى عندما لا يكونون مستعدين لتحدي النظام ككل. بما يتمشى مع هذا التناقض، تنشأ أيديولوجيات مهجنة، تجمع بين عناصر من الأيديولوجية البرجوازية وعناصر من الأيديولوجية الاشتراكية.
إلا أن هذه الأيديولوجيات المهجنة لها أيضاً أساسها المادي المتفرد في الطبقة التي يتسم وضعها الاجتماعي ذاته بأنه جزء برجوازي وجزء بروليتاري ألا وهو الفئة المتوسطة المعروفة في الماركسية عادة بالبرجوازية الصغيرة. إن مصطلح البرجوازية الصغيرة، لها صلاحية عامة ولكن لا ينبغي أن يسمح لها بطمس واقع أنها في العالم الحديث، تغطي عدداً من الشرائح الاجتماعية التي تختلف فيما بينها بشدة فيما يتعلق بظروف وجودها—أهم هذه الشرائح هي: أ) البرجوازية الصغيرة القديمة المكونة من أصحاب الدكاكين الصغيرة وغيرهم من أصحاب صغار الأعمال. ب) الطبقة المتوسطة الجديدة المكونة من الموظفين ذوي المرتبات الذين يوجدون في مواقـع السلطة فوق الطبقة العاملة. ج) بيروقراطيو الحركة النقابية والعمالية. د) الفلاحون (في أغلب البلاد).
إن هذه المجموعات جميعاً تحيط بالبروليتاريا (أنهم على اتصال يومي بها أوثق من اتصال البرجوازية بها) وتمارس تأثيراً على وعيها. إلا أن كلاً من هذه المجموعات تميل لتوليد الأيديولوجية البرجوازية الصغيرة الخاصة بها وممارسة نوعها الخاص من التأثير على العمال، يوجد وعي البروليتاريا إذن، ومعه النظرية الماركسية، في حالة حصار دائم، وقد كان تاريخ الماركسية تاريخ معارك مع الأيديولوجية المهجنة للبرجوازية الصغيرة: ومن هنا مجادلات ماركس ضد برودون وباكونين، وانجلز ضد دوهرنج، وبليخانوف ولينين ضد الشعبويون وهكذا.
إن الإشكالية التي يتناولها هذا المقال، مع ذلك هي النزاعات داخل الماركسية أو بالأحرى بين النزعات النظرية والسياسية التي تدعي أنها ماركسية. السؤال الذي ينبغي طرحه هو ما إذا كانت أكثر هذه النزاعات أهمية هي أيضاً صراعات بين وجهة نظر البروليتاريا ووجهة نظر البرجوازية الصغيرة أو طبقات أخرى. وإذا كانت هذه ظاهرة يمكن إثباتها، فإنها تحتاج أيضاً إلى تفسير.
لقد اقترح لينين أن "جدلية التاريخ تجعل الانتصار النظري للماركسية، يجبر أعداءها على التنكر كماركسيين"([1])، ولكن على الرغم من أن هذا التفسير يحتوي على عنصر حقيقة هام، فانه مبالغ بعض الشيء في التآمرية، لعله أدق تاريخياً أن نقترح إن العملية عادة ما تجرى وفقاً للطريقة الآتية: يتوصل زعماء سياسيون أو حركات ما إلى تصور للثورة البروليتارية يتبنون على إثره الماركسية، وبعد ذلك لأسباب عديدة (في التحليل الأخير ضغط الرأسمالية) يتخلون عن هذا التصور ولكن يحتفظون باسم ولغة الماركسية، إما من خلال خداع الذات أو رغبة في الحفاظ على أوراق اعتمادهم الراديكالية أو الاثنين معا—في الوقت الذي يحولون فيه مضمونها الحقيقي. متى حدثت هذه العملية يتم نقل هذه الماركسية المحولة، لزعماء وحركات أخرى لم يكن لها أي صلة في أي وقت بالثورة البروليتارية([2])، إلا إن هذا تنبؤ بنتائج ينبغي البرهنة عليها أولا بالتحليل التاريخي. من حيث القوة المادية وعدد المناصرين، سيطرت ثلاث نزعات على تاريخ الماركسية منذ ماركس: 1) الاشتراكية الديمقراطية للأممية الثانية. 2) الستالينية. 3) وطنية العالم الثالث. من الواضح أننا لا نستطيع داخل حدود هذا المقال تقديم تحليل شامل لأي من هذه النزعات، فما بالكم تحليل النزعات الثلاث، لذلك سأكتفي بتناول أهم سمات أبرز ممثلي كل من هذه النزعات.
1) الكاوتسكية
أبرز أحزاب الأممية الثانية كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني. أسس هذا الحزب في عام 1875 في مؤتمر جوته، والذي وحد بين الألمان المؤيدين لماركس وأتباع لاسال([3])، وبنهاية القرن التاسع عشر كان قد نما من خلال فترة شبه شرعية (قوانين بسمارك ضد الاشتراكية) ليصبح قوة ذات أهمية داخل الدولة الألمانية. كانت هذه فترة تقدم عام للرأسمالية الألمانية أتاحت للحركة العمالية النامية كسب تنازلات وتحسينات في أوضاعها، وكانت هذه المكاسب بالطبع نتيجة صراع—الرأسمالية لا تعطي أي شيء دون معارك—إلا أنها لم تقتضي مواجهة شاملة أو معركة حياة أو موت طبقياً (في الواقع كان مستوى الاضرابات في ألمانيا منخفضاً جداً)([4]). إجمالا، كانت هذه الفترة فترة سلام اجتماعي نسبي. وانتهزت الطبقة العاملة الألمانية هذه الفرصة لبناء الحزب الاشتراكي الأوسع والأفضل تنظيما في العالم—حزب له مئات الآلاف من الأعضاء ومئات المنظمات الحزبية وأكثر من ثمانين جريدة يومية بالإضافة إلى العديد من المنظمات الاجتماعية والثقافية.
منذ أواخر التسعينات من القرن التاسع عشر انقسم هذا الحزب إلى أغلبية ماركسية أرثوذكسية وأقلية مراجعة (متنامية)، ادعت الأخيرة بزعامة إدوارد برنشتاين إن الرأسمالية، على العكس من النظرية الماركسية، كانت تجاوز تناقضاتها بالتدريج وان الحزب الاشتراكي الديمقراطي بالتالي لا يستطيع، ولا ينبغي، أن يكون أكثر من حزب ديمقراطي للإصلاح الاجتماعي، وحيث أن المراجعين كانوا بدرجة أو بأخرى معادين للماركسية بشكل صريح فإننا لا نعني بهم بشكل خاص في هذا المقال، إنما ما يعنينا هنا هو الجناح الأرثوذكسي. لقد الزم الحزب الاشتراكي الديمقراطي نفسه بالماركسية في مؤتمره في إيرفورت في عام 1891، عندما أقر برنامج ايرفورت الذي اعد مسودته كارل كاوتسكي، والذي كان يلقب ببابا الماركسية. لقد ظل هذا البرنامج بالإضافة إلى التعليق الذي كتبه كاوتسكي أيضاً([5])، الطرح الأساسي حول الرؤية العالمية للحركة، كما ظل كاوتسكي ابرز منظريها حتى الحرب العالمية الأولي. لاشك أن برنامج ايرفورت كان مقبولا بوجه عام، كبيان للماركسية الأرثوذكسية، القسم الأول منه هو "تحليل للمجتمع الحاضر وتطوره"([6])، ويتكون من عرض مكثف ومبسط لنظرية التنمية الرأسمالية التي وضع ماركس خطوطها العامة في البيان الشيوعي وينتهي بأطروحة "أن الملكية الفردية لوسائل الإنتاج أصبحت غير منسجمة مع استخدامها الفعال وتطورها الكامل"([7])، ويطالب القسم الثاني بحل هذا التناقض عن طريق "تحويل الملكية الفردية إلى ملكية جماعية وتحويل الإنتاج السلعي إلى إنتاج اشتراكي يتم لمصلحة وبواسطة المجتمع"([8])، ويتناول القسم الثالث "الوسائل التي تؤدي لتحقيق هذه الأهداف"([9])، وهي الصرع الطبقي للبروليتاريا، أما عن طبيعة هذا الصراع فالبرنامج يقول:
"صراع الطبقة العاملة ضد استغلال الرأسمالية هو بالضرورة صراع سياسي، لا تستطيع الطبقة العاملة تطوير تنظيمها الاقتصادي وشن معاركها الاقتصادية بدون حقوق سياسية، أنها لا تستطيع إنجاز نقل وسائل الإنتاج للمجتمع ككل دون الحصول أولاً على السلطة السياسية"([10]).
مازلنا هنا على أرضية الأرثوذكسية. فقد أصر ماركس مرارا وتكرارا على أن صراع طبقة ضد طبقة هو صراع سياسي، وان "الاستيلاء على السلطة أصبح بالتالي الواجب العظيم للطبقات العاملة"([11])، ولكن ما هو مضمون هذا الصراع السياسي، وهذا الاستيلاء على السلطة السياسية؟ بالنسبة لماركس كما رأينا، كان هذا المضمون هو تدمير الدولة البرجوازية وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا—كانت كوميونة باريس المثل الملموس لها، أما المقصود بالنسبة لكاوتسكي والحزب الاشتراكي الديمقراطي فهو يظهر بوضوح في تعليق كاوتسكي على البرنامج—صراع برلماني حصرا...وللبرهنة على درجة اختصار إستراتيجية الحزب الاشتراكي الديمقراطي على العمل في المجال البرلماني فقط، نحتاج للأسف لاقتباس طويل:
"مثل كل طبقة أخرى، يجب أن تسعى الطبقة العاملة للتأثير على سلطات الدولة لتثنيها نحو أغراضها—الرأسماليون العظام يستطيعون التأثير على الحكام والمشرعين مباشرة، ولكن العمال يستطيعون ذلك فقط من خلال النشاط البرلماني، ولذا، فبانتخاب ممثلين في البرلمان يستطيع العمال بالتالي، ممارسة تأثيرهم على السلطات الحكومية.
إن نضال جميع الطبقات التي تعتمد على النشاط التشريعي في الحصول على التأثير السياسي يتجه في الدولة الحديثة نحو زيادة قوة البرلمان من ناحية، وزيادة تأثيرهم هم داخل البرلمان من ناحية أخرى. تعتمد قوة البرلمان على طاقة وشجاعة الطبقات التي تقف خلفه وطاقة وشجاعة الطبقات التي يفرض إرادته عليها، ويعتمد تأثير طبقة داخل البرلمان، أولا على طبيعة القانون الانتخابي القائم، وهو يعتمد بالإضافة إلى ذلك على تأثير الطبقة المعنية بين الناخبين وأخيراً مدى استعدادها للعمل البرلماني...البروليتاريا مع ذلك في وضع ملائم للنشاط البرلماني...نقاباتهم هي مدرسة برلمانية ممتازة بالنسبة لهم، فهي تتيح فرصا للتدرب على القانون البرلماني والخطب الهامة...وهي تجد فضلا عن ذلك في صفوفها عددا متزايدا من الأشخاص لتمثيلها في القاعات التشريعية.
ومتى انخرطت البروليتاريا في النشاط الانتخابي كطبقة واعية بذاتها، تبدأ طبيعة الحياة البرلمانية في التغير. إنها تتوقف عن أن تكون مجرد أداة في أيدي البرجوازية. إن هذه المشاركة من جانب البروليتاريا أثبتت نفسها كأكثر الوسائل فعالية لهز أقسام البروليتاريا التي كانت في السابق غير مكترثة، وإعطائها الأمل والثقة. إنها أقوى رافعة يمكن استخدامها لإخراج البروليتاريا من انحطاطها الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي—البروليتاريا بالتالي ليست لديها أي سبب لعدم الثقة في النشاط البرلماني"([12]).
تم إقرار هذا التوجه البرلماني كرد فعل للانتصارات الانتخابية الباهرة للحزب الاشتراكي الديمقراطي، فقد ارتفع عدد الأصوات التي حصل عليها من 550.000 (أي ما يوازي 9.7% من الاصوات) في عام 1884 إلى 1427000 (19.7%) في عام 1890—وقد مثل هذا التوجه تحولا حازما باتجاه اليمين عن المواقف السابقة. كتب كاوتسكي في 1881 أن الاشتراكية الديمقراطية ليس لديها أوهام عن إمكانية إنجازها لأهدافها مباشرة من خلال الانتخابات، من خلال الطريق البرلمان، وان الخطوة الأولى في الثورة القادمة ستكون "تدمير الدولة البرجوازية"([13]). ولكن منذ تسعينات القرن التاسع عشر فصاعدا، ظل الطريق البرلماني الإستراتيجية المسيطرة لكاوتسكي والحزب الاشتراكي الديمقراطي معا، هكذا، فعندما يبدو كاوتكسي أثناء المجادلات مع المراجعين، كأنه المدافع عن الثورة فهو دائماً يدافع عن تصور "الثورة البرلمانية" أي أن حزب العمال سيستمر في المعارضة—رافضاً أية ائتلافات أو المشاركة في حكومات برجوازية، حتى يأتي ذلك الوقت الذي يكون فيه، قد حقق أغلبية في البرلمان وشكل الحكومة، وعندئذ يستخدم موقعه لتشريع التحول إلى الاشتراكية([14]). كون أن هذه الإستراتيجية تضمنت الاستيلاء على، وليس تدمير، الدولة الرأسمالية قد أكده كاوتسكي نفسه في سجاله ضد باكونين عام 1912:
"هدف صراعنا السياسي يظل كما هو حتى الآن: الاستيلاء على سلطة الدولة من خلال الحصول على أغلبية في البرلمان، ورفع البرلمان إلى وضع قيادي داخل الدولة بالقطع ليس تدمير سلطة الدولة"([15]).
من بين دعامات الإستراتيجية البرلمانية كان النظر للانتقال إلى الاشتراكية على انه النتيجة الحتمية بشكل أو بآخر للتطور الاقتصادي، نمو الرأسمالية يعني نمو البروليتاريا، متى نمت البروليتاريا سيرتفع وعيها، وسيعنى هذا أصوات أكثر للاشتراكية الديمقراطية، حتى ذلك الوقت الذي ستوجد فيه أغلبية كأسلحة للاشتراكية. كتب كاوتسكي "أن التطور الاقتصادي...سيؤدي بشكل طبيعي لتحقيق هذا الهدف"([16])، ستسير العملية كلها بسلاسة وحتمية وبلا صراعات حياة أو موت، بشرط فقط ألا تقع قيادة الحزب في المغامرة وتثير معركة سابقة لأوانها، النشاط الفعلي الوحيد المطلوب هو التنظيم والتعليم:
"بناء التنظيم وكسب كل مواقع التي نستطيع كسبها والاحتفاظ بها بشكل آمن من خلال قوتنا الذاتية، ودراسة الدولة والمجتمع، وتعليم الجماهير، لا نستطيع بشكل واعي ومنظم، أن نضع أهدافاً أخرى لأنفسنا أو لمنظماتنا"([17]).
السؤال الذي يجب أن نطرحه الآن وفقاً للمنهج الذي تم إقراره في الجزء الأول من هذا المقال هو ماذا كان الأساس الاجتماعي لإيديولوجية التوقع السلبي هذه؟ بمعني من هم المعنيون بترويج هذه الإيديولوجية. كانت القاعدة الاجتماعية هي فترة تخفيف حدة التوتر بين البروليتاريا والبرجوازية والتي رافقت ازدهار وتقدم رأس المال الألماني في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. في الوقت نفسه مع ذلك عبرت هذه الأيديولوجية داخل هذه الحالة العامة، لا عن مصالح الطبقة العاملة وإنما عن مصالح الشريحة الاجتماعية التي كان وجودها ذاته نتاج هذه الهدنة الاجتماعية، ألا وهي البيروقراطية الواسعة للحزب الاشتراكي والنقابات—جيش الموظفين ذوي الامتيازات—التي نمت لتدير منظماتها الجديدة. أفضل ما يوضح هذا هو موقف هؤلاء الزعماء النقابيين والحزبيين من تلك المسألة الجوهرية في الصراع الطبقي: الإضراب العام، وهي مسألة أصبحت ملحة في ألمانية كنتيجة لدور الإضراب العام في ثورة 1905 الروسية([18]). وقف الزعماء النقابيون ضد الإضراب العام بتصلب وفي مؤتمر كولون للنقابات العمالية في مايو 1905 واتخذوا قراراً يدينه، إلا أن الحزب في جينيا في سبتمبر 1905 مرر قرارا يوافق على الإضراب العام من حيث المبدأ دون تحديد ما ينبغي عمله إزاءه. وقد تطلب بعد ذلك اندلاع حركة جماهيرية في ساكسوني من أجل توسيع حق الانتخابات وحل هذا التناقض عملياً:
في أول فبراير 1906 عقد مؤتمرا سريا لمسئولي الحزب والنقابات؛ كشف هذا الاجتماع سريعاً توازن القوى الحقيقي بين المنظمتين، استسلم الحزب للنقابات ملزماً نفسه بمحاولة استخدام قوته لمنع الإضراب العام([19]).
وقد تلا ذلك حل وسط في مؤتمر الحزب في مانهايم في سبتمبر 1906 حيث توصلت النقابات والحزب للاتفاق على أساس "الموافقة النظرية المشتركة—على إمكانية اللجوء للإضراب العام في المستقبل غير المحدد ولكن فقط بموافقة زعماء وأعضاء النقابات"([20]). كان دور كاوتسكي في هذه العملية هو دور ناقد يساري للزعماء النقابيين، وقد انتقد رؤيتهم الاقتصادية الضيقة—وطالب بسيادة الروح الاشتراكية الديمقراطية في النقابات إلا انه رفض القيام بقطع معهم وهاجم في الوقت نفسه دعاة الإضراب العام الحقيقيين مثل روزا لوكمسبورج، على أنهم "ملفقون للثورة"([21]). وعندما واجه الاختيار، ضحى كاوتسكي بمتطلبات الصراع الطبقي من أجل وحدة المنظمات.
إن بيروقراطية الحركة العمالية هي جزء من البرجوازية الصغيرة، أنها تقف بين العمل ورأس المال ودورها الموضوعي هو دور الوسيط بين الطبقات، فهي بالمقارنة بجماهير العمال، متميزة فيما يتعلق بالدخل وضمان الوظيفة وظروف العمل وأسلوب الحياة إلا أن موقعها وبالتالي سلوكها السياسي مختلف عن البرجوازية الصغيرة التقليدية المكونة من صغار رجال الأعمال، وأصحاب الدكاكين الذين يكونون، وباعتبارهم أصحاب ملكيات فردية، في الأوقات العادية تحت الهيمنة الكاملة للبرجوازية الكبيرة. أما في أوقات الأزمات عندما يكونون معتصرين بين العمل ورأس المال يمكن أن ينجذبوا خلف الطبقة العاملة بواسطة حركة ثورية قوية تظهر عزمها وقدرتها على حل أزمة الرأسمالية. أما في غياب مثل هذه الحركة يمكن أن يذهبوا إلى أقصى اليمين ويكونوا القاعدة الجماهيرية للفاشية. في المقابل فان البيروقراطية العمالية مربوطة تنظيمياً بالطبقة العاملة وبالتالي لا تستطيع كشريحة اجتماعية أن تندفع إلى نفس البعد في اليمينية (وهذا هو السبب في أن نظرية "الفاشية الاجتماعية" مجرد لغو سخيف). إلا أنها في الوقت نفسه تتمتع بعلاقة بالطبقة الحاكمة أوثق كثيراً من علاقة أصحاب العمل الصغير بالأخيرة، فدورها كممثلة (برلمانية أو نقابية) يجعلها على اتصال يومي مع الرأسماليون ودولتهم، وهي تعتمد في التأييد الجماهيري لها على التنازلات التي تستطيع الحصول عليها منهم، وكونها مهددة بالمثل بالفاشية التي ستدمر منظماتها والثورة التي ستدمر دورها التفاوضي يجعلها محافظة بعمق. إنها تخشى قبل كل شيء العمل الجماهيري الذي قد يخرج من اليد ويصيب المنظمات بالاضطراب ويثير هجوماً من الطبقة الحاكمة ويقوض عملها الحساس في الموازاة بين الطبقات. إن حاجتها السياسية هي لأيديولوجية تجمع بين الاشتراكية قولا والسلبية والحلول الوسط فعلا، فهي تحتاج الطبقة العاملة كجيش يمكن دفعه للمعركة للحصول على تنازلات تبقى بدورها على تأييد المنظمات إلا أنها تحتاج الطبقة العاملة تحت سيطرتها. لقد ناسبت أيديولوجية الاشتراكية الديمقراطية الألمانية هذه الحاجات كأنها فصلت لها، كانت ماركسية كاوتسكي نظاماً نظرياً كيف نفسه في كل القضايا لحاجات البيروقراطية.
كان هذا صحيحاً حتى على مستوى الفلسفة. فالمادية الميكانيكية، وهي الرؤية الفلسفية المميزة لكاوتسكي والأممية الثانية ككل، هي كما بينا موقف برجوازي في الأساس، إنها تعامل الطبقة العاملة كمجرد نتاج سلبي للظروف المادية، فهي تستبعد الدور الثوري النشط للعمال وللحزب خاصة([22]).
ومتى تم فهم هذا الأساس الاجتماعي لماركسية الأممية الثانية (وما كان صحيحاً بالنسبة لكاوتسكي والحزب الاشتراكي الديمقراطي كان صحيحاً أيضاً بل وأصح بالنسبة لأغلب الأحزاب الاشتراكية الأخرى)، فان الاستسلام للشوفينية في الحرب العالمية الأولى يصبح مفهوماً. فمن ناحية كانت البيروقراطيات المتعددة قد أصبح لها مصلحة خاصة في ازدهار رؤوس الأموال الوطنية وقوتها الإمبريالية. كلما زاد هذا الازدهار كلما سهل عليهم التفاوض على التنازلات. ومن ناحية أخرى لم يكن في استطاعتهم المخاطرة باتخاذ موقف غير شعبي قد يعرض للخطر شرعيتهم ومنظماتهم وتأييدهم، وهكذا في أغسطس 1914 كان تصويت الحزب الاشتراكي الديمقراطي لاعتمادات الحرب خيانة للشعارات الأممية والمعادية للحرب في السنوات السابقة، إلا انه كان أيضاً استمرارا وتتويجا لممارسة سياسية ثابتة([23]).
أن وصف الكاوتسكية بأنها أحد أشكال الماركسية أو أحد جوانب التراث الماركسي هو خلط بين الشكل والمضمون. فمن ناحية المضمون كانت نظريته طبقة أخرى، وكان برنشتاين المعادي للماركسية وكاوتسكي "الماركسي" الأرثوذكسي أقرب جدا لبعضهما البعض مما كان أيا منهما بالنسبة لنظرية ماركس الثورية. انهما لم يختلفا حول الممارسة السياسة التي ينبغي القيام بها وإنما حول الوصف الذي ينبغي وصفها به. سنترك الكلمة الأخيرة لكاوتسكي نفسه، في نعيه لبرنشتاين عام 1932 كتب أن سجالاتهم عند نهاية القرن كانت مجرد حادث عرضي وانهما وقفا معا أثناء الحرب العالمية وفيما تلا ذلك "تبنيا دائماً نفس وجهة النظر فيما يتعلق بجميع قضايا الحرب والثورة وتطور ألمانيا والعالم"([24]).