أسس اللينينية: الموضوع واسع، وينبغي، لاستيفاء بحثه، كتاب كامل، بل مجموعة كاملة من الكتب. فلا يمكن إذن، بطبيعة الحال، أن تكون محاضراتي هذه عرضاً كاملاً للينينية. فهي لا يمكن أن تكون، في أحسن الحالات، سوى خلاصة مقتضبة لأسس اللينينية. على أنني أرى، مع ذلك، أن من المفيد عرض هذه الخلاصة، وذلك لإعطاء بعض نقاط الابتداء الأساسية التي هي ضرورية لدراسة اللينينية دراسة موفقة.
أن عرض أسس اللينينية لا يعني، بعدُ، عرض أسس مفهوم لينين عن العالم. فمفهوم لينين عن العالم وأسس اللينينية ليسا نفس الشيء الواحد من حيث المدى. أن لينين ماركسي، ومن الواضح أن أساس مفهومه عن العالم هو الماركسية. ولكن لا ينتج عن ذلك أبداً أن عرض اللينينية يجب أن يبدأ بعرض مبادىء الماركسية. أن عرض اللينينية يعني عرض ما هو خاص وجديد في مؤلفات لينين، وما اضافه لينين إلى كنز الماركسية العام، وما هو، بطبيعة الحال، مقرون باسمه بهذا المعنى فقط، سأتكلم في محاضراتي عن أسس اللينينية.
وعلى هذا، ما هي اللينينية؟
يقول بعضهم أن اللينينية هي تطبيق الماركسية على الظروف الخاصة بالوضع الروسي. إن في هذا التعريف جزءاً من الحقيقة، ولكنه بعيد عن أداء الحقيقة بكاملها. فقد طبق لينين الماركسية فعلاً على الواقع الروسي، وفعل ذلك ببراعة المعلم. ولكن لو أن اللينينية لم تكن غير مجرد تطبيق الماركسية على وضع روسيا الخاص، إذاً لكانت حادثاً قومياً محضاً وقومياً فقط، روسياً محضاً وروسياً فقط. بينما نحن نعلم أن اللينينية حادث أممي، له جذور في مجموع التطور الأممي، وليس حادثاً روسياً فقط. ولذا أرى أن عيب هذا التعريف هو أنه تعريف وحيد الجانب.
ويقول آخرون أن اللينينية هي بعث العناصر الثورية التي كانت في ماركسية العقد الخامس من القرن التاسع عشر (1840 – 1850)، خلافاً لماركسية السنين التالية التي غدت، كما يقولون، معتدلة وغير ثورية. فإذا ضربنا صفحاً عن هذا التقسيم الأبله السخيف الذي يجعل مذهب ماركس قسمين: ثورياً ومعتدلاً، فيجب الاعتراف بوجود جزء من الحقيقة حتى في هذا التعريف غير الكافي وغير الوافي إطلاقاً. وهذا الجزء من الحقيقة هو أن لينين قد بعث بالفعل محتوى الماركسية الثوري الذي وأده انتهازيو الأممية الثانية. ولكن هذا ليس سوى جزء من الحقيقة. أما الحقيقة كلها عن اللينينية، فهي أنها لم تقتصر على بعث الماركسية، بل خطت فوق ذلك خطوة أخرى إلى الأمام، بتطويرها الماركسية في الظروف الجديدة للرأسمالية ولنضال البروليتاريا الطبقي.
وبعد، فما هي اللينينية، إذن؟.
إن اللينينية هي ماركسية عصر الاستعمار والثورة البروليتارية. وبتعبير أدق اللينينية هي نظرية وتاكتيك الثورة البروليتارية بوجه عام، ونظرية وتاكتيك ديكتاتورية البروليتاريا بوجه خاص. فقد ناضل ماركس وأنجلس في المرحلة السابقة للثورة (نعني الثورة البروليتارية) حين لم يكن الاستعمار قد تطور بعد، في مرحلة تهيئة البروليتاريين إلى الثورة، تلك المرحلة التي لم تكن الثورة البروليتارية فيها قد غدت بعدُ، ضرورة مباشرة عملية لا مناص منها. أما لينين، تلميذ ماركس وأنجلس، فقد ناضل في مرحلة الاستعمار المتطور، في مرحلة الثورة البروليتارية الآخذة في النمو، وفي وقت انتصرت فيه الثورة البروليتارية في قطر واحد فحطمت الديمقراطية البرجوازية، ودشنت عهد الديمقراطية البروليتارية، عهد السوفيات.
هذا هو السبب في أن اللينينية هي تطور الماركسية إلى أمام.
ويلاحظ، عادة، في اللينينية، ذلك الطابع الكفاحي إلى حد فائق العادة، والثوري إلى حد فائق العادة. وهذا صحيح تماماً. بيد أن هذه الخاصة في اللينينية يعود تفسيرها إلى عاملين أثنين: أولهما، أن اللينينية قد انبثقت من صميم الثورة البروليتارية، فلا يمكن إلا أن تحمل طابع هذه الثورة. وثانيهما، أنها نمت وتقوت في المعارك ضد انتهازية الأممية الثانية، وهو كفاح كان ومازال الشرط الأولي الضروري لنجاح النضال ضد الرأسمالية. ويجب أن لا ننسى أن ثمة مرحلة كاملة تمتد بين ماركس وأنجلس من جهة، وبين لينين من جهة أخرى، سادت فيها انتهازية الأممية الثانية دون منازع. فالنضال بلا هوادة ضد هذه الانتهازية كان، بلا مراء، من أهم مهمات اللينينية.
- 1 -
الجذور التاريخية اللينينية
ترعرعت اللينينية وتكونت في ظروف الاستعمار، حين بلغت تناقضات الرأسمالية نقطتها القصوى، حين أصبحت الثورة البروليتارية قضية نشاط عملي مباشر، حين انتهت المرحلة القديمة، مرحلة تهيئة الطبقة العاملة للثورة، إلى غايتها، أي تحولت إلى مرحلة جديدة، هي مرحلة الهجوم المباشر على الرأسمالية.
كان لينين يسمي الاستعمار الرأسمالية المحتضرة . فلماذا؟ لأن الاستعمار يدفع بتناقضات الرأسمالية إلى الحد الأخير، إلى الحدود القصوى التي من بعدها تبدأ الثورة. ومن بين هذه التناقضات ثلاثة ينبغي النظر إليها على أنها أهم التناقضات.
التناقض الأول، هو التناقض القائم بين العمل والرأسمال. فالاستعمار هو تسلط التروستات والكتل الاحتكارية الضخمة والمصارف والطغمة المالية، تسلطاً مطلقاً، في الأقطار الصناعية. وقد تبين، أثناء النضال ضد هذا التسلط المطلق، أن الأساليب المعتادة لدى الطبقة العاملة - كالنقابات والتعاونيات والأحزاب البرلمانية والنضال البرلماني – ليست كافية على الإطلاق. فأما أن تضع نفسك تحت رحمة الرأسمال، وتعيش في ضنك كما في السابق، وتنحدر باستمرار أدنى فأدنى، وإلا فعليك بسلاح جديد: هكذا يضع الاستعمار المسألة أمام جماهير البروليتاريا الغفيرة. إن الاستعمار يسوق الطبقة العاملة إلى الثورة.
التناقض الثاني، هو التناقض القائم بين مختلف الكتل المالية والدول الاستعمارية، في صراعها من أجل مصادر المواد الأولية، ومن أجل أراضي الغير. فالاستعمار هو تصدير رؤوس الأموال إلى مصادر المواد الأولية، هو الصراع الجنوني لامتلاك هذه المصادر امتلاكاً احتكارياً، هو الصراع لإعادة تقسيم عالم تم تقسيمه من قبل. وهو الصراع تشنه، بعنف شديد، الكتل المالية الجديدة والدول الجديدة، التي تفتش عن مكان تحت الشمس ، ضد الكتل والدول القديمة التي تتشبث بما اغتصبته بكل ما لديها من قوة. ولهذا الصراع الجنوني بين مختلف الكتل الرأسمالية، خاصة جديرة بالملاحظة، هي أنه يحتم قيام الحروب الاستعمارية، كعنصر لا مناص منه، في سبيل الاستيلاء على أراضي الغير. وهذه الظاهرة لها، هي أيضاً، خاصة جديرة بالملاحظة تتجلى في أنها تؤدي إلى إضعاف الرأسماليين بعضهم لبعض، وإلى إضعاف موقف الرأسمالية بوجه عام، وإلى تقريب ساعة الثورة البروليتارية، وإلى جعل هذه الثورة ضرورة عملية.
التناقض الثالث، هو التناقض الموجود بين قبضة من الأمم المتمدنة السائدة وبين مئات الملايين من أبناء الشعوب المستعمرة والتابعة في العالم. فالاستعمار هو أوقح أنواع الاستثمار، وأشد أشكال الاضطهاد غير الإنساني، الوحشي، ضد مئات الملايين من سكان الأقطار الشاسعة الواسعة في المستعمرات والبلدان التابعة. وهدف هذا الاستثمار وهذا الاضطهاد، أنما هو نهب الأرباح الفاحشة. ولكن الاستعمار، حين يستثمر هذه البلدان، يضطر إلى أن ينشىء فيها خطوطاً حديدية ومصانع ومعامل ومراكز صناعية وتجارية. ولذلك فظهور طبقة بروليتارية، وتكوين مثقفين من أبناء البلاد، ويقظة الوعي الوطني، واشتداد حركة التحرر، هي النتائج المحتومة لهذه السياسة . وأن تعاظم قوة الحركة الثورية في جميع المستعمرات وفي جميع البلدان التابعة دون استثناء لدليل واضح على ذلك. وهي حالة تهم البروليتاريا، من حيث أنها تزعزع مواقع الرأسمالية وتدكها من جذورها، وذلك بتحويلها المستعمرات والبلدان التابعة من احتياطي للاستعمار إلى احتياطي للثورة البروليتارية.
تلك هي، بالإجمال، تناقضات الاستعمار الرئيسية التي حولت الرأسمالية القديمة المزدهرة إلى رأسمالية محتضرة.
وقد كان من جملة معاني الحرب الاستعمارية التي نشبت منذ عشر سنين، أنها جمعت كل هذه التناقضات في عقدة واحدة، وألقت بها في كفة الميزان، وبذلك عجلت المعارك الثورية للبروليتاريا وسهلتها.
وبعبارة أخرى: إن الاستعمار لم يؤد فقط إلى أن الثورة أصبحت شيئاً لا بد منه من الناحية العملية، بل أدى أيضاً إلى تكوّن ظروف ملائمة للهجوم المباشر على قلاع الرأسمالية.
هذا هو الوضع الدولي الذي ولَّد اللينينية.
وقد يقال لنا: كل هذا حسن جداً. ولكن ما شأن روسيا هنا، وهي ما كانت، ولا كان من الممكن أن تكون، البلد الكلاسيكي(1) للاستعمار؟ وما شأن لينين هنا، وهو الذي عمل قبل كل شيء في روسيا ومن أجل روسيا؟ ولماذا كانت روسيا بالذات، منبت اللينينية، وموطن نظرية الثورة البروليتارية وتكتيكها؟
ذلك لأن روسيا كانت أكثر من سواها، نقطة التقاء لجميع تناقضات الاستعمار هذه.
ذلك لأن روسيا كانت أكثر من أي بلد آخر حبلى بالثورة، ولهذا السبب كانت وحدها قادرة على حل هذه التناقضات بالطريق الثوري.
فأولاً، كانت روسيا القيصرية موطن الاضطهاد بكل أنواعه – الرأسمالي والاستعماري والعسكري على السواء – وفي أشد أشكاله وحشية وبربرية. فمن ذا الذي يجهل أن سلطان الرأسمال في روسيا كان يمتزج بالاستبداد القيصري، وأن عدوانية القومية الروسية كانت تمتزج بقيام القيصرية بدور الجلاد ضد الشعوب غير الروسية، وأن استثمار مناطق كاملة – في تركيا وإيران والصين – كان يرافقه إلحاق هذه المناطق بالقيصرية، كما تلازمه حرب الفتوحات؟ لقد كان لينين على حق في قوله بأن القيصرية هي استعمار عسكري إقطاعي . فقد كانت القيصرية خلاصة مكثفة لأشد نواحي الاستعمار سلبية، مرفوعة إلى التربيع.
ثم أن روسيا القيصرية كانت احتياطياً قوياً للاستعمار الغربي، ليس فقط من حيث أنها كانت تفتح الأبواب على مصراعيها للرأسمال الأجنبي الذي كان يهيمن في روسيا على فروع من الاقتصاد الوطني ذات شأن حاسم، كالمحروقات وصناعة التعدين، بل لأنها كانت أيضاً تستطيع أن تضع ملايين الجنود على الأقدام لمصلحة الاستعماريين الغربيين. تذكروا الجيش الروسي بملاينه الأربعة عشر، الذي سفك دمه على الجبهات الاستعمارية في سبيل تأمين الأرباح الفاحشة للرأسماليين الانكليز والفرنسيين.
ثم أن القيصرية لم تكن فقط كلب الحراسة للاستعمار في شرقي أوروبا، بل كانت فوق ذلك أيضاً عملية للاستعمار الغربي لكي تستنزف من السكان مئات الملايين، لتسديد فوائد القروض الممنوحة لها في باريس ولندن وبرلين وبروكسل.
وأخيراً، كانت القيصرية حليفاً أميناً كل الأمانة للاستعمار الغربي في اقتسام تركيا وإيران والصين، الخ. ومن ذا الذي يجهل أن القيصرية خاضت الحرب الاستعمارية إلى جانب الاستعماريين الحلفاء، وأن روسيا كانت عنصراً أساسياً في هذه الحرب؟
لهذا كانت مصالح القيصرية والاستعمار الغربي تندمج وتندغم بعضها ببعض، لتشكل في النهاية شلة واحدة من مصالح الاستعمار. فهل كان باستطاعة الاستعمار الغربي أن يرتضي فقدان سند قوي في الشرق، ومستودع زاخر بالقوى والموارد، كروسيا القديمة، روسيا القيصرية والبرجوازية، دون أن يجرب قواه كلها في نضال مستميت ضد الثورة في روسيا، للدفاع عن القيصرية وتثبيت أقدامها؟ كلا، طبعاً.
غير أنه ينتج عن هذا أن كل من كان يريد ضرب القيصرية، كان يرفع يده بالضرورة على الاستعمار، وأن كل من كان ينتصب في وجه القيصرية كان مضطراً للوقوف أيضاً في وجه الاستعمار، ذلك لأن كل من كان يعمل للقضاء على القيصرية، كان لا بد له من القضاء على الاستعمار أيضاً، إذا كان ينوي فعلاً أن لا يكتفي بضرب هذه القيصرية، بل كذلك أن يجهز عليها وأن لا يبقي لها أثراً. وهكذا كانت الثورة ضد القيصرية تقارب الثورة ضد الاستعمار، وكان لا بد لها من أن تتحول إلى ثورة ضد الاستعمار، إلى ثورة بروليتارية.
وخلال ذلك، كانت تصعد في روسيا أعظم ثورة شعبية وقفت على رأسها أعظم بروليتاريا ثورية في العالم، تحت تصرفها حليف له من الشأن ما لجماهير الفلاحين الثوريين في روسيا. فهل من حاجة إلى البرهان على أن ثورة كهذه ما كان من الممكن أن تقف في منتصف الطريق، وأنها، في حال نجاحها، كان لا بد لها من السير قدماً، رافعةً علم الانتفاض المسلح على الاستعمار؟
لهذا السبب كان لا بد لروسيا من أن تصبح نقطة الالتقاء لتناقضات الاستعمار، ليس فقط من حيث أن هذه التناقضات كانت تتجلى بأوضح ما يمكن في روسيا نظراً لما تميزت به هذه التناقضات فيها من خساسة وفظاعة ووطأة لا تطاق، وليس فقط من حيث أن روسيا كانت دعامة رئيسية للاستعمار الغربي، تربط الرأسمال المالي في الغرب بمستعمرات الشرق، بل كذلك من حيث أن القوة الحقيقية القادرة على حل تناقضات الاستعمار بالطريق الثوري، كانت موجودة فقط في روسيا.
فينتج من هذا إذن، أن الثورة في روسيا لم يكن من الممكن إلا أن تصبح بروليتارية، لم يكن من الممكن إلا أن ترتدي، منذ الأيام الأولى من تطورها، طابعاً أممياً، وبالتالي، لم يكن من الممكن إلا أن تزعزع نفس أركان الاستعمار العالمي.
فهل كان بمستطاع الشيوعيين الروس، في مثل هذه الحالة، أن ينحصروا في عملهم ضمن نطاق الثورة الروسية الوطني الضيق؟ طبعاً لا. بل على العكس، كان الوضع بكامله سواء في الداخل (أزمة ثورية عميقة) أو في الخارج (الحرب) يدفعهم إلى أن يتجاوزوا، في عملهم، هذا النطاق، وأن ينقلوا النضال إلى الحلبة الدولية، وأن يكشفوا جروح الاستعمار، وأن يبرهنوا حتمية إفلاس الرأسمالية(2)، وأن يحطموا الاشتراكية الشوفينية والاشتراكية المسالمة ، وأخيراً أن يقضوا على الرأسمالية في بلادهم، وأن يبدعوا للبروليتاريا سلاحاً جديداً للنضال، هو نظرية وتكتيك الثورة البروليتارية، وذلك لكي يسهلوا على البروليتاريين في جميع الأقطار مهمة القضاء على الرأسمالية. ولم يكن في وسع الشيوعيين الروس أن ينهجوا غير هذا النهج، إذ عن هذا الطريق فقط كان من الممكن الاعتماد على حدوث بعض تغيرات في الوضع الدولي من شأنها أن تقي روسيا من عودة النظام البرجوازي إليها.
هذا هو السبب في أن روسيا صارت موطن اللينينية، وأن لينين قائد الشيوعيين الروس صار خالق اللينينية.
وهنا اتفق لروسيا وللينين، ما اتفق تقريباً لألمانيا ولماركس وأنجلس بين 1840 و 1850. فقد كانت ألمانيا إذ ذاك حبلى بثورة برجوازية، كما كانت روسيا في بداية القرن العشرين. وقد كتب ماركس في البيان الشيوعي :
إن انتباه الشيوعيين يتجه على الأخص نحو ألمانيا، لأنها على أعتاب ثورة برجوازية، ولأنها ستقوم بهذه الثورة في ظروف أكثر تقدماً من حيث المدنية الأوروبية، وبوجود بروليتاريا متطورة أكثر بكثير مما كانت عليه في انكلترا في القرن السابع عشر، وفي فرنسا في القرن الثامن عشر، وبالتالي، فالثورة البرجوازية الألمانية، لا يمكن أن تكون سوى مقدمة مباشرة لثورة بروليتارية .
وبعبارة أخرى، كان مركز الحركة الثورية ينتقل نحو ألمانيا.
وقد لا يكون ثمة مجال للشك في أن هذه الظروف التي أشار إليها ماركس في المقطع المذكور هي التي كانت السبب الراجح في أن ألمانيا صارت موطن الاشتراكية العلمية، وفي أن زعيمي البروليتاريا الألمانية، ماركس وأنجلس، هما اللذان كانا مبدعيها.
ويجب أن يقال مثل هذا، ولكن على درجة أرفع أيضاً، عن روسيا في بداية القرن العشرين. فقد كانت روسيا، عهد ذاك، على أعتاب ثورة برجوازية، وكان عليها أن تقوم بهذه الثورة ضمن ظروف أكثر تقدماً في أوروبا، وبوجود بروليتاريا متطورة أكثر مما كانت عليه في ألمانيا في أعوام 1840 – 1850، (فضلاً عن انكلترا وفرنسا). وكانت كل العلائم تحمل على الاعتقاد بأن هذه الثورة ينبغي أن تكون خميرة ومقدمة للثورة البروليتارية. وليس من باب الصدفة أن لينين، منذ عام 1902، حين كانت الثورة الروسية بعد، في طور التهيئة، كتب في كتابه ما العمل؟ ، هذه الكلمات التي فيها من النبوءة ما فيها:
يضع التاريخ الآن أمامنا (يعني أمام الماركسيين الروس - ستالين) مهمة قريبة، هي مهمة ثورية أكثر من جميع المهام القريبة الموضوعة أمام البروليتاريا في أي بلد آخر...
فانجاز هذه المهمة، أي تهديم أقوى حصن لا للرجعية الأوروبية فحسب، بل (ويمكننا قول ذلك الآن) وللرجعية الأسيوية أيضاً، سيجعل من البروليتاريا الروسية طليعة البروليتاريا الثورية العالمية . (لينين) – المؤلفات الكاملة. صفحة 382، الطبعة الروسية).
وبتعبير آخر: كان من الواجب أن ينتقل مركز الحركة الثورية نحو روسيا.
ومعلوم أن مجرى الثورة في روسيا قد حقق نبوءة لينين هذه تماماً.
فهل بعد هذا مجال للدهشة من أن يصبح بلد قام بمثل هذه الثورة، ولديه مثل هذه البروليتاريا، موطن نظرية وتكتيك الثورة البروليتارية؟
وهل بعد هذا مجال للدهشة من أن يكون لينين، زعيم البروليتاريا الروسية، قد أصبح، في الوقت نفسه، مبدع هذه النظرية التكتيك وزعيم البروليتاريا العالمية؟
(1)كلاسيكي ـ Classique : نعت للدلالة على القدمية، والأصالة وإتباع السنن المقررة، ومعناه هنا: البلد النموذجي للاستعمار، أو العريق فيه – هيئة التعريب.
(2)الاشتراكية المسالمة pacifisme – Social: الاشتراكية المزيفة الداعية إلى الخنوع وتكتيف الذراعين خلال الحرب، بحجة أن الاشتراكية هي "مسالمة" وتكره الحرب. وذلك عوضاً عن الدعوة إلى النضال لتحويل الحرب الاستعمارية إلى نضال لقلب الاستعمار- هيئة التعريب.