إن نظرية الثورة الدائمة تتطلب حاليا الانتباه الأقصى من قبل كل ماركسي, لان تطور الصراع الأيديولوجي و الصراع الطبقي قد اخرج نهائيا هذه المسألة من نطاق ذكريات الخلافات القديمة بين الماركسيين و الروس و طرحها كمسألة طابع الثورة العالمية بشكل عام و علاقتها الداخلية و أساليبها. تعني نظرية الثورة الدائمة بالنسبة للبلدان ذات التطور البرجوازي المتأخر, و خاصة البلدان المستعمرة و شبه المستعمرة, أن الحل الحقيقي و الكامل للمهام الديمقراطية و مهام التحرر القومي فيها لا يمكنه أن يكون إلا ديكتاتورية البروليتاريا, التي تقود الأمة المضطهدة, و بشكل خاص جماهيرها الفلاحية. لا تعين المسألة الزراعية وحدها, بل أيضا المسألة القومية, دورا أوليا في الثورة الديمقراطية للفلاحين, الذين يشكلون الأكثرية الساحقة من سكان البلدان المتخلفة. و دون تحالف بين البروليتاريا و الفلاحين, لا يمكن إنجاز مهام الثورة الديمقراطية و لا حتى طرحها بجدية. إنما التحالف بين هاتين الطبقتين لن يحقق بغير نضال عنيد ضد البرجوازية الليبرالية القومية. مهما كانت المراحل الأولى العرضية من الثورة في مختلف البلدان, فإن التحالف الثوري بين البروليتاريا و الفلاحين لا يمكن فهمه إلا تحت القيادة السياسية للطليعة البروليتارية المنظمة في حزب شيوعي. و هذا يعني بدوره أن انتصار الثورة الديمقراطية لا يمكن أن يتم إلا بواسطة دكتاتورية البروليتاريا التي تستند إلى تحالفها مع الفلاحين و تنجز, أولا, مهام الثورة الديمقراطية. إذا ما قيمنا شعار البلاشفة القديم "دكتاتورية العمال و الفلاحين الديمقراطية" من وجهة النظر التاريخية, نجد أنه عبر تماما عن العلاقات , المحددة أعلاه , بين البروليتاريا و الفلاحين و البرجوازية الليبرالية. و هذا ما أثبتته تجربة أكتوبر. لكن صيغة لينين القديمة لم تحدد سلفا طبيعة العلاقات السياسية المتبادلة بين البروليتاريا و الفلاحين داخل الكتلة الثورية . و بعبارات أخرى , قبلت الصيغة عمدا بعدد معين من المجهولات الجبرية كان لا بد لها من أن تفسح المجال , من خلال التجربة التاريخية , أمام مواد حسابية محددة . و قد أثبتت التجربة التاريخية , في ظروف تمنع كل تفسير آخر, أن دور الفلاحين, مهما كانت أهميته الثورية, لا يمكنه أن يكون مستقلا فكيف به قياديا. إن الفلاح إما أن يتبع العامل و إما أن يتبع البرجوازي. و هذا يعني أنه لا يمكن فهم "دكتاتورية العمال و الفلاحين الديمقراطية" إلا كدكتاتورية البروليتاريا تجر وراءها الجماهير الفلاحية. إن دكتاتورية ديموقراطية للعمال و الفلاحين, كنظام يتميز بمضمونه الطبقي عن دكتاتورية البروليتاريا, لن تتحقق إلا في حال أمكن تشكيل حزب ثوري مستقل يعبر عن مصالح الديمقراطية الفلاحية و البرجوازية الصغيرة بشكل عام, حزب يستطيع, بمساعدة البروليتاريا, أن يستولي على السلطة و أن يحدد برنامجها الثوري. إن التاريخ الحديث, و خاصة تاريخ روسيا خلال السنوات الخمس و العشرون الأخيرة, يدل على أن الحاجز المتعذر عبوره الذي يحول دون تكوين حزب فلاحي هو فقدان البرجوازية الصغيرة (الفلاحين) للاستقلال الاقتصادي و السياسي و تفاضلها الداخلي العميق الذي يسمح لشرائحها العليا أن تتحالف مع البرجوازية الكبيرة في الظروف الحاسمة و خاصة في حالتي الحرب و الثورة, بينما تتحالف شرائحها الدنيا مع البروليتاريا, مما يجبر شرائحها الوسيطة على الاختيار بين هاتين القوتين. بين نظام كرنسكي و السلطة البلشفية, بين الكيومنتانغ و دكتاتورية البروليتاريا لا يوجد و لا يمكن أن يوجد أي نظام وسطي, أي دكتاتورية ديموقراطية للعمال و الفلاحين. إن محاولة الأممية الشيوعية, اليوم, أن تفرض على بلدان الشرق شعار دكتاتورية العمال و الفلاحين الديمقراطية, الذي تخطاه التاريخ منذ زمن طويل, لا يمكن أن يكون لها إلا معنى رجعي. و بقدر ما يستعمل هذا الشعار في وجه شعار دكتاتورية البروليتاريا, فهو يساهم سياسيا في تفكيك و تذويب البروليتاريا في الجماهير البرجوازية الصغيرة, خالقا يذلك الظروف المناسبة لهيمنة البرجوازية القومية و بالتالي لإفلاس و انهيار الثورة الديموقراطية. إن إدخال هذا الشعار في برنامج الأممية الشيوعية يعني حقا خيانة الماركسية و تقاليد أكتوبر البلشفية. إن دكتاتورية البروليتاريا التي استولت على السلطة بوصفها القوة القائدة للثورة الديمقراطية سوف تجابه حتما و سريعا مهام ترغمها على القيام بخرقات عميقة لقانون الملكية البرجوازي. إن الثورة الديمقراطية, في أثناء تطورها, تتحول مباشرة إلى ثورة اشتراكية و تصبح بذلك ثورة دائمة. إن استيلاء البروليتاريا على السلطة لا يضع حدا للثورة بل يفتتحها فقط. و لا يمكن فهم البناء الاشتراكي إلا على أساس الصراع الطبقي على الصعيدين القومي و الدولي. و هذا الصراع, نظرا للسيطرة الحاسمة للعلاقات الرأسمالية على الصعيد العالمي, سيؤدي حتما إلى انفجارات عنيفة, أي إلى حروب أهلية في الداخل و حروب ثورية في الخارج. بهذا يكمن الطابع الدائم للثورة الاشتراكية ذاتها, أكان الأمر يتعلق ببلد متخلف أنجز ثورته الديمقراطية أو ببلد رأسمالي قديم مر عبر فترة طويلة من الديمقراطية و البرلمانية. لا يمكن إتمام الثورة الاشتراكية ضمن الحدود القومية. إن أحد الأسباب الأساسية لازمة المجتمع البرجوازي يكمن في كون القومي المنتجة التي خلقها هذا المجتمع تميل نحو الخروج من إطار الدولة القومية. و ينتج عن ذلك الحروب الإمبريالية من جهة, و طوبى الولايات المتحدة البرجوازية الأوروبية من جهة أخرى. تبدأ الثورة الاشتراكية ضمن الإطار القومي و تتطور على الصعيد الدولي ثم تستكمل على الصعيد العالمي. و هكذا تصبح الثورة الاشتراكية دائمة بالمعنى الجديد و الأوسع للكلمة : إنها لا تستكمل إلا بالانتصار النهائي للمجتمع الجديد على كوكبنا بأجمعه. إن الصورة التي رسمناها أعلاه لتطور الثورة العالمية تلغي مسألة البلدان "الناضجة" أو "غير الناضجة" للاشتراكية وفقا لهذا الترتيب المدعي و الجامد الذي وضعه برنامج الأممية الشيوعية الحالي. فبقدر ما خلقت الرأسمالية السوق العالمي و التقسيم العالمي للعمل و القوى المنتجة العالمية, حضّرت مجمل الاقتصاد العالمي للبناء الاشتراكي. إن مختلف البلدان ستصل إليه بوتائر مختلفة. و في ظروف معينة, تستطيع بلدان متخلفة أن تصل إلى دكتاتورية البروليتاريا قبل بلدان متقدمة, و لكنها ستصل بعدها إلى الاشتراكية. إن بلدا متخلفا مستعمرا أو شبه مستعمر ليست البروليتاريا فيه مهيأة التهيئة الكافية لتجميع الفلاحين حولها و الاستيلاء على السلطة هو, بحكم هذا الواقع بالذات, عاجز عن إتمام الثورة الديموقراطية. أما في بلد حيث تصل البروليتاريا إلى السلطة إثر ثورة ديموقراطية فلن يكون مصير الدكتاتورية و الاشتراكية اللاحق, في التحليل الأخير, رهنا بالقوى المنتجة القومية بقدر ما يُرهن بتطور الثورة الاشتراكية العالمية. إن نظرية الاشتراكية في بلد واحد, التي نبتت على زبل الردة ضد أكتوبر, هي النظرية الوحيدة التي تناقض بشكل عميق و منطقي نظرية الثورة الدائمة. إن محاولة رجال الصف الثاني, تحت طعنات النقد, حصر نظرية الاشتراكية في بلد واحد في روسيا الوحيدة بسبب خصائصها المميزة (الإتساع, الثروات الطبيعية) لا يحسّن الأمور بل يزيدها خطورة. إن التخلي عن موقف عالمي يؤدي بشكل حتمي إلى "الهدنة" القومية, أي إلى رؤية أفضليات و ميزات خاصة تسمح لبلد أن يلعب دورا لا يمكن للبلدان الأخرى أن ترتفع إليه. إن التقسيم العالمي للعمل, و اعتماد الصناعة السوفياتية على التقنية الأجنبية و اعتماد قوى الإنتاج في البلدان المتقدمة على المواد الأولية الأسيوية, الخ, تجعل من المستحيل بناء مجتمع اشتراكي مستقل, معزول, في أي بقعة كانت من العالم. إن نظرية ستالين و بوخارين لا تعارض الثورة الديموقراطية بالثورة الاشتراكية بشكل ميكانيكي فحسب, و رغم تجارب الثورات الروسية, بل تفصل أيضا الثورة القومية عن الثورة العالمية. فهي تضع ثورات البلدان المتخلفة أمام مهمة إقامة نظام الدكتاتورية الديموقراطية المستحيل تحقيقه و الذي ترفعه في وجه دكتاتورية البروليتاريا. و هكذا تدخل هذه النظرية في السياسة أوهاما و أساطير و تشل نضال البروليتاريا من أجل السلطة في الشرق و تعميق انتصار ثورات البلدان المستعمَرة. وفقا لنظرية رجال الصف الثاني, إن استيلاء البروليتاريا على السلطة يشكل بحد ذاته إتمام الثورة ("إلى درجة التسعة أعشار", حسب صيغة ستالين).
إنها تفتتح عصر الإصلاحات القومية. إن نظرية دمج الكولاك بالاشتراكية و نظرية "أبطال تأثير" البرجوازية العالمية لا يمكن فصلهما, بالتالي, عن نظرية الاشتراكية في بلد واحد. فهي تقف و تنهار معا. إن نظرية الاشتراكية القومية تحط الأممية الشيوعية, و تستعملها كسلاح مساعد يخدم في النضال ضد تدخل مسلح. إن السياسة الحالية للأممية الشيوعية و نظامها و اختيار زعمائها تتناسب تماما مع انحطاطها و تحولها إلى فرقة مساعدة ليست مؤهلة لإنجاز المهام المقترحة عليها بشكل مستقل.
إن برنامج الأممية الشيوعية, الذي وضعه بوخارين, هو انتقالي بكامله. إنه محاولة يائسة للتوفيق ما بين نظرية الاشتراكية في بلد واحد و الأممية الماركسية, في حين لا يمكن فصل هذه الأخيرة عن الطابع الدائم للثورة العالمية. إن نضال المعترضة الشيوعية اليسارية في سبيل سياسة صحيحة و نظام سليم في الأممية الشيوعية هو مرتبط بشكل لا ينفصم بالنضال في سبيل برنامج ماركسي. و مسألة البرنامج هي بدورها مرتبطة بمسألة النظريتين المتعارضتين: نظرية الثورة الدائمة و نظرية الاشتراكية في بلد واحد. إن مشكلة الثورة الدائمة قد تخطت منذ أمد طويل إطار الخلافات العرضية بين لينين و تروتسكي و التي, فضلا عن ذلك, استهلكها التاريخ استهلاكا كاملا. إن الأمر يتعلق بالنضال ما بين أفكار ماركس و لينين الأساسية, من .جهة, و انتقائية الوسطيين, من جهة أخرى.