مختارات من كتاب -رأس المال
"مختارات من كتاب "رأس المالكارل ماركس: رأس المال (نقد الاقتصاد السياسي الكتاب الأول: عملية إنتاج الرأسمال القسم السابع: عملية تراكم رأس المال الفصل الرابع والعشرون: ما يسمى بالتراكم الأولي 6- منشأ الرأسمالي الصناعي ان منشأ الرأسمالي الصناعي[3] لم يمض في مسار تدريجي كالذي تميز به منشأ المزارع. ولا ريب في ان بعض صغار معلمي الطوائف الحرفية، إضافة إلى عدد اكبر من صغار الحرفيين المستقلين، بل حتى العمال المأجورين، قد تحولوا إلى رأسماليين صغار، ثم تحولوا، بتوسيع نطاق استغلال العمل المأجور تدريجياً، وتوسيع تراكم رأس المال بالمقابل، إلى رأسماليين san phrase [بدون تحفظات]. في عهد طفولة الإنتاج الرأسمالي، كانت الأمور تجري في الغالب كما في عهد طفولة مدن القرون الوسطى، حيث كانت مسألة أي من الأقنان الهاربين ينبغي ان يكون رب عمل وأيهم يكون خادماً، تُبَت، عادةً، حسب تاريخ فرار القِن من سيده، أيهم اقدم وأيهم احدث عهداً بالفرار. بيد ان هذه الطريقة البطيئة بطء السلحفاة لم تكن تتناسب، بأية صورة، مع المتطلبات التجارية للسوق العالمية الجديدة التي خلقتها الاكتشافات العظمى في نهاية القرن الخامس عشر. ان العصور الوسطى خلفت شكلين متميزين من رأس المال، نضجا في اكثر التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية تبايناً، وكان يعتبران، قبل حلول حقبة الأسلوب الرأسمالي للإنتاج، بمثابة رأسمال على العموم، وهما رأس المال الربوي، ورأس المال التجاري. "في الوقت الحاضر، تذهب ثروة المجتمع كلها إلى يد الرأسمالي أولا... فيدفع إلى مالك الأرض ريعه، وإلى العامل أجره، وإلى جباة الضرائب والعشور ما يطلبون، ويحتفظ من الناتج السنوي الذي يخلقه العمل بقسم كبير، بل بالقسم الأكبر الذي يتنامى باستمرار. ويمكن القول الآن ان الرأسمالي هو أول من يملك كل الثروة الاجتماعية، رغم انه لا يوجد قانون يضمن له الحق في هذه الملكية... وهذا التحول في ميدان الملكية قد تحقق بفعل اخذ الفائدة المئوية عن رأس المال... وليس من الغريب في شيء ان جميع المشرعين في أوروبا سعوا لمنع ذلك بالقوانين المضادة للربا... ان سلطة الرأسماليين على مجمل ثروة البلاد تؤلف ثورة كاملة في حق الملكية، فبأي قانون، أو بأي سلسلة قوانين تحققت هذه الثورة؟"[4] كان حرياً بالمؤلف ان يعرف ان الثورات لا تصنعها القوانين أبداً. لقد كان النظام الإقطاعي في الريف، ونظام الطوائف الحرفية في المدن، يمنعان رأس المال النقدي، الذي نشأ عن طريق الربا والتجارة، من التحول إلى رأسمال صناعي[5]. وتلاشت هذه الأغلال بانحلال زمر الخدم الأتباع للإقطاعي، وبانتزاع ملكية سكان الريف وطرد قسم منهم. لقد انبثقت المانيفاكتورات الجديدة في مرافئ التصدير البحرية أو في نقاط على البر الداخلي، بعيداً عن سيطرة المدن القديمة وأنظمة طوائفها الحرفية. من هنا منشأ الصراع الضاري الذي خاضته corporate towns [مدن الطوائف الحرفية] في إنكلترا ضد هذه المنابت الجديدة الصناعة. ان اكتشاف مناجم الذهب والفضة في أمريكا، واقتلاع سكانها الأصليين من مواطنهم واستعبادهم ودفنهم أحياء في المناجم، وبدايات غزو ونهب الهند الشرقية[6]، وتحويل إفريقيا إلى ساحة محمية لصيد ذوي البشرة السوداء، ان ذلك كله يميز فجر عهد الإنتاج الرأسمالي. ان هذه العمليات الرغيدة هي العناصر الرئيسية للتراكم الأولي. ثم جاءت في أعقابها، الحرب التجارية التي خاضتها الأمم الأوروبية جاعلة الكرة الأرضية ساحتها. فقد اندلعت بانفصال هولندا عن أسبانيا، واتخذت أبعاداً هائلة في حرب إنكلترا ضد اليعاقبة[7]، وما تزال مستعرة في حروب "الأفيون" ضد الصين، وهلم جراً. وتتوزع مختلف عناصر التراكم الأولي، في تسلسل زمني متعاقب إلى هذا الحد أو ذاك، بين مختلف البلدان، وبخاصة أسبانيا والبرتغال وهولندا وفرنسا وإنكلترا. وقد اندمجت في إنكلترا، نحو أواخر القرن السابع عشر، في مجموع منتظم يشمل معاً نظام المستعمرات، ونظام الاقتراض الحكومي، ونظام الضرائب الحديث، ونظام الحماية الجمركية. واعتمدت هذه الطرائق، في جانب منها، على العنف الوحشي، كالنظام الاستعماري مثلاً. ولكنها جميعاً تستخدم سلطة الدولة، أي العنف المنظم والمركز في المجتمع، بغية إنماء عملية تحويل الأسلوب الإقطاعي للإنتاج إلى أسلوب رأسمالي، وتقليص مراحله الانتقالية. ان العنف هو قابلة كل مجتمع قديم يحمل في أحشائه مجتمعاً جديداً. ان العنف هو، ذاته، قوة اقتصادية. وبصدد النظام الاستعماري المسيحي، يقول و. هاوويت، وهو الذي اتخذ من المسيحية اختصاصاً له: "ان الأعمال الوحشية والفظائع البشعة التي ارتكبتها ما يسمى بالعروق المسيحية، في مختلف أرجاء المعمورة، وضد جميع الشعوب التي استطاعت ان تخضعها لسلطانها، لا مثيل لها عند أي عرق آخر، مهما بلغ به العنف والجهل، ومهما بلغ من القسوة والوقاحة، في أي عصر من عصور التاريخ."[8] ان تاريخ الاقتصاد الاستعماري الهولندي، وهولندا هي نموذج البلد الرأسمالي في القرن السابع عشر، "يعرض للأنظار صورة لا مثيل لها من الخيانة والرشاوى والمذابح والسفالة"[9]. ولا أدل على ذلك من أسلوبهم في سرقة البشر في جزيرة سيليب للحصول على عبيد لأجل جزيرة جاوا. وكان يجري تدريب لصوص البشر خصيصا لهذا الغرض. وكان هذا اللص، والمترجم والبائع، هم المشاركين الرئيسيين في هذه التجارة، وكان الأمراء المحليون هم الباعة الرئيسيين. وكان الفتيان المسروقون يرزحون في زنزانات سرية في سيليب، حتى يبلغون السن المناسبة لشحنهم في سفن نقل العبيد. وقد ورد في أحد التقارير الرسمية: "ان مدينة ماكاسار وحدها، على سبيل المثال، ملأى بسجون سرية، وأحدها أفظع من الآخر، تغص بالمنكوبين، ضحايا الجشع والاستبداد، وهم مثقلون بالقيود، بعد ان انتزعوا من أهلهم عنوة". ومن اجل الاستيلاء على ملقة، عمد الهولنديون إلى رشوة حاكمها البرتغالي. وقد فتح لهم هذا أبواب المدينة عام 1641. فهرعوا إلى منزله في الحال وقتلوه غيلة، لكي "يتقشفوا" في دفع ثمن الخيانة البالغ 21.875 جنيهاً. وما ان تطأ أقدامهم أرضاً، حتى يحل بها الخراب ويقل سكانها. لقد كان [عدد] سكان بانيوفانغي، إحدى مقاطعات جاوا، يناهز 80 ألف نسمة عام 1750، اما عام 1811 فلم يبق منهم سوى 8 آلاف. ما الطف هذه التجارة! لقد حصلت شركة الهند الشرقية الإنكليزية، كما هو معروف، إلى جانب السلطة السياسية لحكم الهند الشرقية، على الاحتكار المطلق لتجارة الشاي، إضافة إلى احتكار التجارة مع الصين عموماً، واحتكار نقل البضائع من أوروبا واليها. ولكن الملاحة قرب سواحل الهند وبين الجزر، وكذلك التجارة داخل الهند، كانتا احتكاراً مقصوراً على كبار موظفي الشركة. وكان احتكار الملح والأفيون والتامول وغير ذلك من السلع مصدر ثراء لا ينضب. وكان الموظفون ذاتهم يقررون الأسعار، وينهبون الهنود التعساء على هواهم. وكان الحاكم العام يشارك في هذه التجارة الخاصة. وكان المقربون إليه يحظون بالعقود وفق شروط تتيح لهم، خيراً من السيمائيين، ان يصنعوا الذهب من العدم. وكانت ثروات طائلة تنبت كالفطر في نهار واحد، بينما يمضي التراكم الأولي قدماً دون تسليف شلن واحد. وتزخر محاكمة "وارن هاستغس" بحالات من هذا النوع. إليكم مثالاً واحداً منها: كان عقد الأفيون قد رسا على شخص يدعى ساليفان لحظة سفره في مهمة رسمية إلى منطقة نائية في الهند تبعد كثيراً عن مناطق زراعة الأفيون. فباع ساليفان عقده إلى آخر يدعى "بين" بمبلغ 40 ألف جنيه إسترليني، فباعه "بين" بدوره لقاء 60 ألف جنيه في اليوم ذاته. اما آخر من اشترى العقد ونفذه فقد أعلن انه حقق، بعد كل هذا، مكسباً ضخماً. واستناداً إلى إحدى الوثائق التي رفعت إلى البرلمان، أرغمت الشركة وموظفوها، بين أعوام 1757 - 1766، الهنود على تقديم هدايا تبلغ قيمتها 6 ملايين جنيه. وقد دبر الإنكليز، في عامي 1769 و 1770، مجاعة مفتعلة عن طريق شراء محصول الرز كله، رافضين بيعه ثانية الا بأسعار خيالية[10]. وكانت معاملة السكان الأصليين، بالطبع، افظع ما يكون في المستعمرات الزراعية المكرسة لتجارة التصدير فقط، مثل الهند الغربية، وكذلك في البلدان الغنية والمكتظة بالسكان، مثل المكسيك والهند الشرقية، التي وقعت في براثن النهب. غير ان الطابع المسيحي للتراكم الأولي تجلى حتى في المستعمرات بالمعنى الدقيق للكلمة. ان بيوريتانيي نيوانكلند، أطهار البروتستانتية الرزينة هؤلاء، قرروا في Assembly (جمعيتهم التشريعية) عام 1703، تقديم مكافأة مقدارها 40 جنيهاً عن سلخ فروة رأس كل هندي احمر، وعن كل أسير من الهنود الحمر، وفي عام 1720 ارتفعت مكافأة فروة الرأس المسلوخة إلى 100 جنيه؛ اما في عام 1744، وبعد ان اعتبرت إحدى القبائل في منطقة خليج ماساشوسيتس متمردة، وضعت الأسعار التالية: فروة رأس ذكر عمره 12 عاماً فما فوق تساوي 100 جنيه بالعملة الجديدة، أسير من الرجال 105 جنيهات، أسيرة من النساء أو طفل 55 جنيهاً، فروة رأس امرأة أو فروة رأس طفل 50 جنيهاً! وبعد عدة عقود من السنين اخذ النظام الاستعماري ثأره من أحفاد أولئك pilgrim fathers [الأجداد الحجاج] الورعين، الذين باتوا بدورهم متمردين. فبرشوة من الإنكليز وبتأليب منهم فتك بهم الهنود الحمر بالفؤوس. وأعلن البرلمان البريطاني ان الكلاب الدموية وسلخ فروة الرأس "وسائل وضعها الرب والطبيعة بين يديه". لقد انضج النظام الاستعماري نمو التجارة والملاحة. وغدت "الشركات الاحتكارية"، على حد تعبير لوثر، رافعات جبارة لتركز رأس المال. وضمنت المستعمرات سوقاً للتصريف بالنسبة للمانيفاكتوارت الناشئة بسرعة، اما احتكار السوق هذا فقد ضمن مضاعفة التراكم. ان الكنوز المنتزعة من خارج أوروبا، بالسطو السافر، واستعباد السكان المحليين وقتلهم، تدفقت على البلد الأم وتحولت فيه إلى رأسمال. وقد بلغت هولندا التي كانت السباقة إلى تطوير النظام الاستعماري تطويراً كاملاً، ذروة عظمتها التجارية عام 1648. "كانت هولندا تحتكر، لوحدها تقريباً، تجارة الهند الشرقية، والتبادل التجاري بين جنوب غربي أوروبا وشمالها الشرقي. وكانت مصائد أسماكها، وملاحتها، ومانيفاكتوراتها تفوق ما يملكه أي بلد آخر منها. ولربما كان إجمالي رأسمال هذه الجمهورية اكبر من رؤوس أموال بقية بلدان أوروبا مجتمعة". وينسى غوليخ، كاتب هذه الأسطر، ان يضيف بأن الجماهير الشعبية في هولندا كانت، في عام 1648 تعاني من العمل المفرط، والفقر، والقمع الوحشي، اكثر مما كانت تعانيه الجماهير الشعبية في بقية بلدان أوروبا مجتمعة. ان الهيمنة الصناعية في يومنا هذا تجر معها الهيمنة التجارية. اما في عهد المانيفاكتورة، بالمعنى الدقيق للكلمة، فقد كانت الهيمنة التجارية، بعكس ذلك، هي التي تمنح التفوق الصناعي. ومن هنا جاء ذلك الدور الحاسم الذي لعبه النظام الاستعماري آنذاك. فقد كان هو "الإله الغريب" الذي صعد المحراب ووقف إلى جانب آلهة أوروبا القدامى، ورماهم جميعاً ذات نهار جميل برفسة واحدة إلى قارعة الطريق. وأعلن النظام الاستعماري ان كسب المغانم هو الهدف النهائي والوحيد للبشرية. ان نظام الائتمان العمومي، أي ديون الدولة الذي نجد براعمه في جنوا والبندقية منذ القرون الوسطى، قد استحوذ على أوروبا بأسرها، في المرحلة المانيفاكتورية. وكان النظام الاستعماري، بتجارته البحرية وحروبه التجارية، بمثابة دفيئة لنظام الائتمان ذاك. وهكذا ضرب جذوره في هولندا في بادئ الأمر. ان دين الدولة، أي نزع الملكية في صالح الدولة، سواء كانت استبدادية، ام دستورية، ام جمهورية، هو ما يَسِمُ الحقبة الرأسمالية بميسمه. والجزء الوحيد مما يسمى بالثروة الوطنية الذي يُعتبر فعلاً ملكاً جماعياً للشعوب المعاصرة هو ديون دولها[11]. لذلك فان المذهب الحديث القائل بأن شعباً من الشعوب يزداد ثراء بقدر ما يكون دينه اكبر هو مذهب منطقي تماماً. ويغدو الائتمان العمومي العقيدة التي يعتنقها رأس المال. وبنشوء مديونية الدولة، يغدو الإخلال بالثقة في دين الدولة لا التجديف على الروح القدس، خطيئة لا تغتفر. ان الدين العمومي يصبح واحداً من أقوى الروافع الجبارة للتراكم الأولى. فهو يمنح النقود العاقر، كما لو بلمسة عصا سحرية، القدرة على الإنجاب، ويحولها بذلك إلى رأسمال، قاضياً على أية حاجة لتعرضها إلى المتاعب والأخطار الملازمة لتوظيفها في الصناعة، أو حتى في أعمال الربا. ان دائني الدولة، لا يعطون شيئاً في الواقع، فالمبالغ التي يفرضونها تتحول إلى سندات دين حكومية، يسيرة التداول، تظل تعمل بين أيديهم مثلما تعمل النقود الفعلية تماماً. ولكن، عدا عن خلق طبقة من الريعيين (renters) المتكاسلين، وعدا عن الثروة المرتجلة التي يجنيها الماليون الذين يلعبون دور الوسيط بين الحكومة والأمة، وكذلك عدا عن متعهدي جباية الضرائب، والتجار، والصناعيين الخاصين، الذي يذهب إليهم جزء كبير من كل قرض حكومي كرأسمال يهبط من السماء، عدا عن ذلك كله فان دين الدولة أدى إلى نشوء الشركات المساهمة، والمتاجرة بالأوراق المالية من كل نوع، والمضاربة بها، وباختصار نشوء المقامرة في البورصة والطغمة المصرفية المعاصرة. ان البنوك الكبرى، التي توشحت بألقاب وطنية، لم تكن منذ ولادتها سوى شركات من المضاربين الخاصين الذين قدموا المساعدة للحكومات؛ وكان بمقدورهم ان يسلفوها نقوداً بفضل الامتيازات التي حظوا بها. لذا لم يكن ثمة معيار لقياس تراكم ديون الدولة أدق من الارتفاع المتعاقب لأسهم هذه البنوك، التي يرجع تاريخ ازدهارها إلى تأسيس بنك إنكلترا (عام 1694). لقد ابتدأ بنك إنكلترا عمله بإقراض الحكومة بفائدة مقدارها 8%، وكان مخولاً من البرلمان، في الوقت نفسه، بسك العملة من هذا الرأسمال عينه الذي كان يقرضه ثانية إلى الجمهور بصيغة البنكنوت. وأجيز البنك ان يستخدم هذه البنكنوت لخصم الكمبيالات وتقديم السلف على البضائع، وشراء المعادن الثمينة. ولم يمض وقت طويل حتى غدت هذه النقود الائتمانية، التي أصدرها البنك بنفسه، العملة التي يقدم بها بنك إنكلترا القروض إلى الدولة، ويدفع بها، بالنيابة عن الدولة، الفائدة المئوية عن ديون الدولة. ولم يكن البنك يعطي بهذه اليد ليأخذ اكثر بكثير باليد الأخرى فحسب، بل ظل، حتى وهو يقبض، الدائن الأبدي للامة حتى استيفاء آخر شلن مسلف. وبالتدريج اصبح، بالضرورة، خازن الكنوز المعدنية في البلاد، ومركز الجاذبية لكل عمليات الائتمان التجاري. وعندما توقف سكان إنكلترا عن إحراق الساحرات، بدأوا يشنقون مزوري البنكنوت. اما أي انطباع ولده لدى أهل ذلك العهد الظهور المباغت لهذا النسل من طغمة المصرفيين، والماليين، والريعيين، والسماسرة، ومضاربي الأسهم وذئاب البورصة... الخ، فذلك ما تبينه مؤلفات ذلك العهد، مثل كتابات بولينغبروك[12]. ومع ديون الدولة، ظهر نظام الائتمان العالمي، الذي غالباً ما يعتبر مصدراً من مصادر التراكم الأولى الخفية عند هذا الشعب أو ذاك. هكذا نجد ان دناءات نظام النهب لمدينة البندقية شكلت ركيزة خفية من هذا النوع لنمو ثروة الرأسمال في هولندا، التي اقترضت من البندقية، الآخذة في الانهيار، مبالغ كبيرة من النقد. وكذلك كان أمر العلاقة بين هولندا وإنكلترا. ففي مطلع القرن الثامن عشر، تخلفت المانيفاكتوارات الهولندية عن مانيفاكتوارت إنكلترا كثيراً، وكفت هولندا عن ان تتبوأ مركز الأمة السائدة في التجارة والصناعة. وهكذا اصبح إقراض رساميل ضخمة، وبخاصة لمنافستها الجبارة إنكلترا، أحد اتجاهات الأعمال الرئيسية بالنسبة لها بين أعوام 1701 و 1776. وقد نشأت مثل هذه العلاقات اليوم بين إنكلترا والولايات المتحدة فان كثيرا من الرساميل العاملة اليوم في الولايات المتحدة، دون ان تحمل شهادة ميلاد، ليست الا دماء الأطفال التي تحولت، بالأمس فقط، إلى رأسمال في إنكلترا. وبما ان ديون الدولة ترتكز على دخولها، التي ينبغي ان تغطي مدفوعات الفوائد المئوية السنوية وسواها من المدفوعات، فقد اصبح نظام الضرائب الحديث التكملة الضرورية لنظام قروض الدولة، ان القروض تتيح للحكومة ان تغطي النفقات الاستثنائية دون ان تجعل دافع الضرائب يشعر بكل عبثها فوراً، ولكنها تقضي في آخر المطاف بزيادة الضرائب. ومن جهة أخرى فان زيادة الضرائب بسبب تنامي الديون المستمر، ترغم الحكومة، دوماً، على اللجوء المتكرر إلى أخذ قروض أخرى فأخرى لتغطية النفقات الاستثنائية الجديدة. وبالتالي فان نظام المالية المعاصر، الذي يرتكز محوره على الضرائب المفروضة على اكثر وسائل المعيشة ضرورة ( مما يرفع أسعارها) يضم في أحشائه جنين تنامي الضرائب التلقائي. ان فرض الضرائب الفاحشة، ليس استثناء عابراً، بل هو بالأحرى القاعدة المبدئية. ففي هولندا، حيث ترسخ هذا النظام أولاً، قام الوطني الكبير "دي ويت" بتمجيده في مؤلفه "المبادئ" بوصفه افضل طريقة تجعل العامل المأجور مذعناً، مقتصداً، مثابراً، صبوراً على العمل المفرط. الا ان الأثر المدمر الذي يخلفه نظام المالية المعاصر على وضع العمال المأجورين لا يهمنا، هنا، قدر اهتمامنا بالنزع القسري، الناجم عنه، لملكية الفلاحين، والحرفيين، وباختصار جميع عناصر البرجوازية الصغيرة. وليس ثمة اثنان يختلفان بهذا الخصوص حتى بين الاقتصاديين البرجوازيين.