الأزمة الاقتصادية الراهنة ذات أبعاد خطيرة على مستقبل الرأسمالية
حاول الرئيس الأمريكي بوش تصوير ما جرى من انهيار النظام المصرفي بالولايات المتحدة بكونه أزمة عابرة أو كبوة مؤقتة بالنسبة للنظام العالمي الجديد، والذي قام على أثر انهيار الاتحاد السوفيتي، وتداعي المعسكر الاشتراكي عام 1991.
ونشط منظروا الرأسمالية، وفي مقدمتهم فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ المعروفة بالتبشير بفشل الاشتراكية، ودور الدولة في الإشراف على النشاط الاقتصادي في بلدانهم، والتمجيد بالنظام الرأسمالي، واقتصاد السوق، والحرية الاقتصادية، ورفع الحواجز بين البلدان، وحرية انتقال رأس المال، وتشابكه من خلال الشركات المتعددة الجنسيات، ومنع الدولة من التدخل في الدورة الاقتصادية لبلدانهم مدعين أن التاريخ قد أثبت فشل الاشتراكية كنظرية، والاقتصاد الموجه من قبل الدولة بدليل سقوط التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي بعد سبعة عقود من قيام النظام الاشتراكي فيها، حيث انهار على حين غرة ذلك الإنهيار الذي هز العالم أكثر مما هزه عند انتصار ثورة أكتوبر عام 1917بأضعاف وأضعاف.
لقد مثل انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي صدمة كبرى ليس فقط لشعوب هذه البلدان وحدها ، بل صدمة وكارثة كبرى للعالم وللبشرية كلها، فقد كانت الآمال معقودة لدى البشرية على خلق نظام عالمي جديد لا يكتفي بإدارة الاقتصاد العالمي فقط، كما هو الحال في النظام الرأسمالي القائم على أساس الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وتكديس الثروة لدى فئة قليلة من الرأسماليين كل هدفها ينحصر في تكديس أقصى ما يمكن من الثروة بأقصر مدة زمنية، متجاهلين االمتطلبات ألأخرى للمجتمع البشري فيما يخص العدالة الاجتماعية، وحقوق وحريات الشعوب، ومكافحة البطالة والأمراض التي تفتك بملايين البشر، وتأمين ظروف حياة كريمة للإنسان تؤمن له ولعائلته حاجاتهم المادية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية.
لقد أشار معهد الأبحاث التابع للأمم المتحدة في بداية العقد الأخير من القرن الماضي إلى أن 20% من سكان العالم يعاني من سوء التغذية، ومعظمهم في قارتي أسيا وأفريقيا ، كما يشير إلى 33% من السكان العرب هم في عداد الفقراء، وأشار إلى أن توقعاته بحلول عام 2000سيتصاعد الفقر في أسيا وأفريقيا إلى 52%.
وأشار إلى أن مليار إنسان يعانون من الجوع ، ومليار آخر يعانون من الأمية، و3 مليار يفتقرون إلى المياه الصالحة للشرب وللخدمات الطبية ، ومن بينهم 300 مليون طفل محرومون من الدراسة الابتدائية، و189 مليون طفل يعانون من سوء التغذية ، ونسبة الأمية بين نساء الجنوب 30%.
كما أن نسبة الوفيات بين الأطفال في بلدان الجنوب تصل إلى 10 أمثالها في بلدان الشمال بسبب الفقر وسوء التغذية حيث يبلغ عدد الجياع في بلدان الجنوب 1700 مليون إنسان.
وفي المقابل تسيطر مجموعة من الشركات الرأسمالية الكبرى على 70% من الإنتاج الصناعي العالمي، وعلى 40% من التجارة العالمية، وعلى33 % من الأصول الإنتاجية في العالم ، وتهيمن على القطاعات المالية والمصرفية ، ومرافق الاتصالات والنقل، والتكنولوجيا، والمعلومات، وأجهزة التسويق ، وحركة رأس المال، وأسعار الصرف والفائدة، وتوريد السلاح.
وقد بلغ مبيعات الدول السبعة الكبرى 5،5تلريون دولار عام 1992، وبلغت أرباحها في الاستثمارات 70% من قيمة الأصول ، ومن بين هذه الشركات 600 شركة من بلدان صناعية متقدمة بينها الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وكندا.
وهكذا يتبين لنا أن هناك عالمان في ظل الرأسمالية، عالم يضم أقلية من الناس تمتلك الجانب الأعظم من الثروة، وعالم يضم الأغلبية الساحقة من البشر الذين يعانون شضف العيش والجوع والبطالة والجهل والأمراض وفقدان الخدامات العامة.
إن نظاماً يعمل ضمن هذا التوجه، ويضاعف البون الشاسع بين حياة الأقلية المترفة والأغلبية الجائعة عاماً بعد عام لا يمكن له الاستمرار، وهو يخلق البيئة المناسبة للصراع الطبقي من أجل أحداث تغيير جوهري لمستقبل البشرية يحدث طفرة نوعية في في حياة الإنسان بمختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية.
إن التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي قد استمرت أكثر من سبعة عقود، على الرغم من الأخطاء التي حدثت في تطبيق تلك التجربة والتي لا يتسع المجال للدخول فيها الآن، وسأفرد لها بحثاً آخر فيما بعد، وقد استطاعت خلال تلك العقود السبعة أن تحول بلدان الاتحاد السوفيتي المتأخرة جداً والتي تفتقد القاعدة الصناعية التي كان يتمتع بها العالم الرأسمالي إلى بلد متطور في مختلف المجالات، واستطاع النظام أن يحقق للمواطن الكثير من حاجاته المادية كالسكن بأجور رمزية، وضمان العمل، والرعاية الصحية المجانية، والغذاء، والتعليم المجاني، والقضاء التام على الأمية، وكل ذلك تحقق على الرغم من حروب التدخل التي وقعت منذ قيام ثورة أكتوبر 1917 واستمرت حتى عام 1922 ، وعلى الرغم من تعرض الاتحاد السوفيتي للحصار الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي من جانب العالم الرأسمالي، وعلى الرغم كذلك من تعرض الاتحاد السوفيتي للهجوم الهتلري الوحشي عام 1941 حيث استطاعت جحافل النازية اجتياح مناطق شاسعة من الأراضي السوفيتية حتى وصلت قوات هتلر إلى أبواب موسكو، وجرى تدمير المدن السوفيتية، وتدمير معظم المنشآت الصناعية والزراعية والخدمية أبان الحرب التي انتهت في ربيع عام 1945، واستطاع الجيش الأحمر دحر القوات الألمانية وتحرير وطنه، والتقدم غرباً لتحرير أوربا الشرقية من نير الاحتلال الألماني، وأكمل زحفه نحو ألمانيا حيث احتل عاصمها برلين وأسقط النظام النازي البشع في ألمانيا، وخلص البشرية من شروه.
أما العالم الجديد الذي أقامه الغرب بزعامة الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، والذي أطلق عليه عصر العولمة، واقتصاد السوق، وفتح الأسواق العالمية أمام رؤوس الأموال الغربية، والشركات المتعددة الجنسيات، وكان الفرح يغمر قلوب أصحاب الشركات الكبرى بانتصار الرأسمالية وسقوط التجربة الاشتراكية، فإن تلك الفرحة الغامرة لم تدم سوى 17 عاماً ليتفاجأ العالم أجمع بانهيار النظام المصرفي على حين غرة في الولايات المتحدة القطب الأوحد في العالم بقوتها الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، وبسرعة خاطفة أخذ النظام المصرفي في العالم يتهاوى كقطع الدومينو المصفوفة إلى بعضها البعض بضربة واحدة ، وبدأت الانهيارات الواسعة في البورصات العالمية وإفلاس الكثير من المصارف والشركات التي لم يعرف لها العالم مثيلاً إلا أبان الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929، بل هي كما يبدو اشد واخطر منها بكثير، بالنظر للتوسع الهائل لشبكة رأس المال العالمي من خلال الشركات المتعدد الجنسيات التي أدت إلى امتداد الانهيارات إلى مختلف بلدان العالم شماله وجنوبه في لمح البصر، تاركة الشعوب تقف مشدوهة إلى ما ينتظرها في مستقبل الأيام من كوارث اقتصادية ومعيشية.
وعلى الرغم من الإجراءات التي اتخذتها البلدان السبعة الكبرى بضخ مئات المليارات من الدولارات في البنوك من أجل وقف الانهيارات وإعلان الإفلاس، فإن الصورة التي يجري رسمها
من قبل كبار رجال الاقتصاد تبدو قاتمة، وهذا ما دفع الرئيس الفرنسي ساركوزي إلى التصريح قائلاً : {أننا بحاجة إلى وضع أسس جديدة لنظامنا الرأسمالي}.
وكان ساركوزي يشير إلى ضرورة عدم ترك الحبل على الغارب لتصرف الشركات المصرفية الكبرى، وضرورة إشراف الدولة على حركة رأس المال، وهذا يعني العودة إلى القطاع العام والقطاع المشترك لمعالجة الخاطر الجسيمة التي تعرض لها النظام الرأسمالي خلال أيام معدودة، وقد سارعت دول الاتحاد الأوربي لعقد اجتماع عاجل لبحث الأزمة الخطيرة ومحاولة وضع الحلول لتجاوزها، وقد اتخذت قرارها بتكليف ساركوزي لعرض وجهة نظرها إزاء الأزمة مع الرئيس الأمريكي بوش على وجه السرعة، غير أن الاجتماع الذي تم بين ساركوزي وبوش لم يأتي بنتيجة سوى القرار بعقد اجتماع بأسرع وقت ممكن للدول السبعة الصناعية الكبرى مع دعوة العديد من دول العالم للمشاركة في المؤتمر لعلهم يخرجون منه بحلول تخرج النظام الرأسمالي من محنته الحالية.
لكن الرياح تجري بما لا تشته السفن كما يبدو، والأزمة تأخذ في خناق الجميع، وتنذر بكساد اقتصادي عالمي كبير، وما يمكن أن يجلبه للبشرية من بطالة وفقر وجوع ومصائب وويلات لا حصر لها. إن الرأسمالية تبقى عاجزة عن إيجاد حل للمشاكل التي تجابه البشرية، ولا بد من تصاعد التناقض بين العالمين واشتداد الصراع الطبقي حتى يتم التغيير الكيفي للنظام القائم إلى نظام أكثر عدالة يتيح للبشرية حياةً تليق بالإنسان