ناجح شاهين
najehshahin@yahoo.com 2008 / 10 / 6
المواطن المتعلم، ناهيك عن غير المتعلم، يعيش حيرة بالغة تجاه ما يحصل في اضخم ظاهرة سياسية واقتصادية في التاريخ البشري. الولايات المتحدة كما يعلم القاصي والداني ليست قوة عظمة قابلة للمقارنة بمن سبقها. انها تقريبا –او هذا ما كان يبدو طوال الوقت منذ حرب أوروبا الكبرى الثانية1945- أكبر من العالم كله. اذن كيف حصل ويحصل الانهيار المالي الحالي؟
ربما أن هذا السؤال يسبقه أسئلة لا تقل عنه اثارة بالنسبة لمعظمنا، ومن ذلك: ما الذي يجعل الولايات المتحدة بلدا مهيمنا على الرغم من تراجعها الصناعي الواضح للعيان ليس في مواجهة الصين أو اليابان فحسب بل وحتى والدتها العجوز أوروبا؟
سوف نبدأ قصتنا الموجزة بالقول ان آباء الاقتصاد السياسي الكلاسيكي من شاكلة آدم سميث وكارل ماركس لم يعرفوا –تقريبا- أي شيء عن عمل الرأسمالية المعاصرة. لقد كان جل حديثهم عن الرأسمالية المنتجة والصناعية بالذات. اذن ها هو طرف الخيط: الرأسمالية المهيمنة في عالم اليوم ليست رأسمالية منتجة وانما رأسمالية مالية مضاربة طفيلية، ويليها في الأهمية رأسمالية المعلوماتية التي لا تنتج شيئا محسوسا على وجه الدقة. وما يجمع بينهما هو أن أيا منهما لا يزيد بالمعنى الصحيح مقدار القيمة التي يطلقها البشر وانما يعتاشان بشكل طفيلي مستتر أو صريح على القطاعات المنتجة الأول والثاني وبدرجة أو باخرى على قطاع الخدمات.
فقدت الولايات المتحدة قصب السبق في الانتاج الصناعي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وبعدها مباشرة قلصت على نطاق واسع عمل رأسمالها في قطاعات الآنتاج مفضلة عليه قطاعا ولد في آخر السبعينات نتيجة لفورة النفط. ويتمثل في اقراض المال لدول العالم الثالث بوصفه اسلوبا مضمونا وسريعا لجني الأرباح دون معاناة الانتاج ومشكلاته. ليس سرا بالطبع أن تلك الولادة غير الشرعية لعالم رأس المال المضارب قد تمخضت فورا عن أزمة سداد الديون الشهيرة عام 1982. ربما أن العجوز كاسترو قد كان محقا في نصحه بضرورة عدم السداد. لكن "الناس" طمعا وخوفا وافقوا على جدولة ديونهم. لو أنهم فعلوا ما كان يجب أن يفعلوا ربما كانوا غيروا التاريخ. لكن تغيير التاريخ فكرة قلما تتحقق. فلا بد من استمرار اللعبة حتى تبقى الولايات المتحدة البلد الأضخم في العالم وان تكن تلهث وراء الصين في كافة ميادين الصناعة. يكفيها أن تجني أرباحا خيالية من رأس مالها الرمزي بشقيه المعلوماتي والمالي. ان رأس المال الأمريكي قد عاش شهر عسل اسطوري –خصوصا منذ 1990- دون أن يكون له فضيلة تتجاوز فضيلة أنه هو من يضع شروط اللعبة التي يريد أن يلعبها. تخيلوا أنك تملك ميزة أن تضع القانون الذي يحدد ما يجب ان يحدث. لا بد أنك تمتلك قدرة هائلة على جعل الأمور تعمل في صالحك.
جاءت أزمة آسيا 1998 لتمثل لحظة رائعة بكل معنى الكلمة. من الصحيح بالطبع أن الرأسمالية بشكل عام قد تعرضت لتساؤل نظري خجول حول انهيار اسطورة النمور المنتجة ووقوعها بسهولة فريسة رأس المال المضارب الأمريكي أولا والأوروبي ثانيا، ولكن رأس المال الأمريكي الأهم عالميا خرج بحصيلة أرباح مادية ومعنوية كرست الى الأبد –اعني ما بدا في حينه- أصلحيته في عالم دارويني ينتخب الأصلح من حيث الفاعلية دون التفات الى القيم والأخلاق.
مرة أخرى سوف تبين الولايات المتحدة برأسمالها الذي صار عليه أن يطئطئ قليلا كي لا يضرب سقف السماء، تبين أنها قوة وحيدة حاكمة بأمرها في كافة ارجاء المعمورة. "هيا افتحوا اسواقكم للمضاربة" هذا هو بيت القصيد من اغنية العولمة الذائعة الصيت. بعد قليل سيرحل الفتى اللعوب بيل كلينتون ويأتي مكانه راعي الأبقار المحارب جورج بوش الثاني ليكشف أن راس مال أمريكا الصناعي-البترولي يريد أيضا فتوحه الخاصة فتبدأ حروب أمريكا التي بدت في غاية السهولة على الأقل في بدايتها. لم يتمكن أحد من فعل شيء. لقد كانت أمريكا فوق الجميع، تماما مثل ألمانيا هتلر، مع افضلية واضحة للحالة الأمريكية.
لا بد أن حدود القوة لدى الرأسمالية الأمريكية فعلا موجودة. كلا ليست أمريكا قوة مطلقة بالمعنى الرياضي أو الفيزيائي للكلمة. ومن هنا فإن شبقا لا يرتوي للربح لا بد أن يأكل نفسه. لا بد أن يصل الأمر الى الجنون المركب لرأس المال الأمريكي الذي قاد الى بداية انهيار قد يتعمق وقد يتم تداركه لبعض الوقت. من ناحية لقد "نجح" كبار المدراء وكبار المضاربين في تحقيق ثروات طائلة عبر "رواتب" خيالية وعمولات، ومن ناحية أخرى تمت سرقات على نطاق واسع لإجبار راس المال الفدرالي على تشديد الخناق على المواطن ليدفع المزيد من حصته لرأس المال المالي تحديدا. ولقد فعلت دولة رأس المال العسكري والبترولي ما كان ينتظر منها أن تتردد في فعله. كنا نتوقع ذلك الكرم أكثر من دولة بيل كلينتون. لكن ذلك يجيب على سؤال البعض عن درجة الاختلاف بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري أو بين أشكال رأس المال المختلفة. ان الجواب الأمثل هو ببساطة انها مختلطة، ولعل هذا يفسر انتقال الناس بسهولة بين الحزبين وبين أنواع "البزنس" المختلفة. ولعل هذا ييبن –لمن لا يتبنى موقفا ليبراليا- أن الأزمة لا حل لها في اطار الرأسمالية، وخصوصا الرأسمالية الليبرالية.