عدنان الظاهر
كثُرت التنظيرات والإجتهادات ووجهات النظر حول أسباب إنهيار المعسكر الإشتراكي آواخر القرن الماضي حتى لم يبقَ مجالٌ للمزيد من التنظيرات على ما أحسب . لستُ بصددِ مناقشةِ هذا الملف ولكنْ سأحاول معالجة ظاهرة الإنهيار والسقوط من جوانبَ أُخُرَ ما زال فيها متسعٌ من المجالات والإمكانيات لمسّها مسّاً عنيفاً لا خفيفاً . يمكن تلخيص التنظيرات سالفة الذكر كما يلي ومن وجهة نظر أصحابها وفيها الكثير من الحقائق وصواب الرأي مع الفوارق الكثيرة والكبيرة بين أصحابها موقفا ً وإجتهاداً وثقافة ً وقناعات ٍ . الكلام عن الفترات التي أعقبت رحيل جوزف ستالين عام 1953 .
العوامل الداخلية :
1ـ فساد قيادات الحزب الشيوعي السوفياتي وكوادر الدولة العليا بسبب كونهم برجوازيين أو خونة أو غير مثقفين أصلاً أو ماسونيين لذا عملوا جميعاً وكلٌّ من موقعه وأهمية هذا الموقع على تخريب النظام وهدم الإشتراكية وطمس جميع معالمها وعظيم إنجازاتها زمني السلم والحرب .
2ـ غياب الدمقراطية وحرية التعبير وباقي الحريات المدنية الأخرى
3ـ أزمة السكن والطعام والملبس ومنع السياحة والسفر إلى الأقطار الرأسمالية المجاورة والبعيدة .
4ـ تدني مستوى أجور الموظفين والعمال وباقي فئات الشعوب السوفياتية الأمر الذي أدى إلى حرمان الناس من القدرة على التوفير من جهة وفقر القوة الشرائية من الجهة الثانية .
5ـ مركزية الإنتاج والتوزيع وحصرهما بيد الحكومة السوفياتية وليس بأيدي الحزب الشيوعي أو نقابات العمال .
6ـ تخلف الإنتاج الزراعي بسبب تخلف الريف ووسائل الإنتاج سواء في مزارع الدولة ( السوفخوزات ) أو المزارع التعاونية الخاصة
( الكولخوزات ) . يُضاف لذلك قساوة الطبيعة والمناخ في أغلب مناطق الإتحاد السوفياتي السابق .
7ـ عزلة الحزب عن باقي فئات الشعب وغرق القيادات بالنعيم والإمتيازات .
8ـ سباق التسلح الذي إستنزف الإقتصاد السوفياتي المتعب أصلاً وإبتداءً .
9ـ غياب إنتاج القطاع الخاص وبالتالي غياب المنافسة مما أدى إلى تردّي نوعية المنتوجات المعروضة في الأسواق . كانت تُعرض بين حين وآخر بضائع بنوعيات جيدة مستوردة خاصة ً من جمهورية ألمانيا الدمقراطية سابقاً وبعض الألبسة من بلغاريا لكنها سرعان ما تنفد وتختفي من الأسواق .
10ـ الإتجار بالدولار الأمريكي في السوق السوداء التي كانت في تصاعد مستمر من عام لآخر .
الأسباب والعوامل الخارجية :
1ـ تطويق البلدان الإشتراكية بالطوق الرأسمالي المحكم ثم الضغوط والحصار وسلاح المقاطعة
2ـ التجسس الخارجي والداخلي والتخريب بشتى السبل والوسائل . ثم سلاح الإعلام المضاد بكافة اللغات .
3ـ نشاط عملاء الغرب داخل الأقطار الإشتراكية .
هذا مجمل ما قيل ويقال عن أسباب إنهيار الإشتراكية في موسكو وباقي العواصم الإشتراكية .
لا أنأقش أياً من هذه الفقرات بل سأركز على موضوعة أخرى حيّرتني ولم تزلْ وستبقى في رأسي تحيّرُني طويلاً . أعني ما يلي :
لماذا عجز الإشتراكيون في كافة بلدانهم الواقعة تحت سيطرة الأحزاب الشيوعية أو الإشتراكية ... لماذا عجزوا عن تربية وتنشئة قادة ٍ جُدُد ٍ من طراز ماركس ولينين ثم ستالين وعياً وثقافةً وإلتزاماً ؟ كيف عقمت البشرية ُالتقدمية ُ عن إنجاب أمثال هؤلاءِ الرجال ِ لكي يقودوا شعوبهم صوبَ الإشتراكية الصحيحة فالشيوعية ؟ هل العيبُ في الرجالِ أم العيبُ في الإشتراكية نفسِها بحيثُ لا تستطيعُ جذبَ وإقناعَ أمثالِ هؤلاءِ الرجالِ ليتقدموا الصفوفَ حتى الإنتصار الكامل ؟ أين الخللُ ؟ ثم ، لماذا تراجعت الإشتراكية بعد ستالين حتى في الإتحاد السوفياتي نفسه بسبب سيطرة عناصر قيادية ليست كفؤوة أو خائنة أو مرتشية أو متعاونة مع جهات أجنبية وأجهزة مخابراتها ؟ مرة ً أخرى أينَ الخللُ ، في الرجال أو في طبيعة النظام الإشتراكي أم في الإشتراكية نفسها ؟
الأمرُ الأكثرُ غرابة ً ومأساويةً ً من وجهة نظري هو : أين كانَ دورُ العمّال الشيوعيين ونقاباتهم طوال الحِقب التي أعقبت وفاة ستالين حيث كانوا شهودَ عيان ٍ على ما وصل إليه حالُ الإتحاد السوفياتي وكيف سكتوا على وصولِ رجال ٍ أمثال غورباتشوف ويلتسين وأضرابهما إلى أعلى قيادات الحزب والدولة ؟ ثم كيف سكتوا والقضية ُ قضيتهم والإشتراكية لهم بالدرجة الأولى ... كيف سكتوا على تفكيك الإتحاد السوفياتي وخياناتِ السكير يلتسين وتردّي الأوضاع بأشكال غير مسبوقة حتى آلت دولتهم ـ دولة العمال والفلاحين ـ إلى دولة مفككة ضعيفة تنتهج نهجاً رأسمالياً بعد مرور أكثر من سبعين عاماً على تأسيس دولتهم الإشتراكية ؟؟؟ الظاهرة محيّرة وملتبِسة جداً جداً : إذا فسدتْ قياداتُ الحزبِ والدولة وتبرجّزت أو تعاونت أو خانت وإرتشت أو فقدت قناعاتها بالإشتراكية فلسفة ً ومبدأ ً ونظرية ً ونظاماً مُصمَّما ً أساساً لبناءِ دولةِ العمال ِ والفلاحين ثم الإنتقال السلمي بدكتاتورية البروليتاريا إلى آفاق الشيوعية وهي أعلى وأغلى أحلام البشرية منذ أنْ وعى الإنسانُ نفسه وأدرك مكانته في العالم الطبيعي المحيط به ... إذا كان هذا شأن القيادات الفاسدة والمنحرفة فما بالُ العمالِ ( ولا أقول الفلاحين ) يخونون قضيتهم المصيرية ويغضّونَ الطرفَ عما كان يجري حولهم وتحت سمعهم وأبصارهم ؟؟ هل هم كذلك يئسوا من نُبلِ وعدالة قضيتهم العظمى فخانوها وخانوا رسالتهم التأريخية أمام أنفسهم وباقي فئات الشعب ؟ كيف ولماذا يخونُ عاملٌ بروليتاريٌّ قضيته المركزية ورسالته التأريخية فيتخلى عن حمل الراية ويستكين قابلاً الهزيمة ؟ يبرز ذات السؤال هنا مرةً ثانية ً : هل فقدت الإشتراكية ُ بريقها وقيمتها كحالِ العملة الرديئة في أسواق العملات العالمية فتخلى أصحابُها عنها قانعين بما يأتي به المصيرُ المجهولُ لبلدهم وشعوبهم وهي أمانة في أعناقهم لأنهمُ الأملُ والقادة ُ الحقيقيون والطلائع والمثال ؟ لقد عادت إلى أيديهم الأغلالُ التي فقدوها بعد قيام ثورة أكتوبر الإشتراكية بعد أنْ بشّرهم ماركس وحثهم على الثورة وتحطيم المجتمع القديم الذي لا يخسرون فيه إلا أغلالهم . هل أستنتجُ أنَّ العيبَ والخللَ في الإشتراكية نفسها لا فيمن حملها من الناس ؟ ظني الخاص أنْ لا من خللٍ في الإشتراكية كنظام سياسي ـ إقتصادي غير أنها سبقت زمانها تماماً مثل حال كومونة باريس فسقطتا كلاً في حينها .
سياحة قصيرة مع تروتسكي
أذا كان الأمر كذلك فإنَّ الإستنتاج المنطقي البسيط يقودنا إلى التسليم بأنَ تروتسكي كان على صواب ٍ حين شكك في إمكانية إنتصار الثورة الإشتراكية في بلد واحد معارضاً بذلك لينين ثم َّ ستالين وتحمّل ما تحمّل جرّاءَ ذلك من تشرّدٍ وتخفٍّ حتى لاقى حتفه إغتيالاً في المكسيك زمن ستالين وبأمره كما يُقال ويٌُشاعُ . الإشتراكية ُ ـ زاعماً أني أفهم وجهة نظر تروتسكي ـ نظامٌ عالمي ٌّ أممي ٌّ في الأساس لا ينهضُ ولا ينتصرُ إلا إذا نهضت كلُّ أو أغلبُ الأمم المتطورة صناعياً وعلمياً وإقتصادياً وبإرادة شعوبها الحرّة لا بالتدخل والفرض بجبروت القوّة العسكرية أو غيرها من الضغوط . ولقيام مثل هذه الإشتراكية العلمية بالأسلوب الطوعي شروط ٌ وظروفٌ ومناخات وأمزجة ٌ مناسبة بحيث يتقبلها الناسُ بل ويسعون إليها طواعية ً مطلبا ً حياتيا ً وجوديا ً حيوياً مُلحّا ً لا بدَّ منه ولا بديلَ له. هل ستقودُ الطبقة ُ العاملة ُ هذه التحوّلات الخطيرة الشأن سلمياً لا بالثورة الحمراء وهل ستقودها بمفردها وهل هي أصلاً مؤهلة للقيام بهذا الدور ؟ البروليتاريا أممية الطابع والطبيعة لكنْ ، هل هي على صعيد العالم الصناعي المتطور على درجة واحدة من الثقافة والوعي الإشتراكي والتطور ثم الإعداد والإستعداد لتقدم الصفوف من أجل بناء علمي عالمي إشتراكي ؟ تصطدم بمثل هذه الأسئلة نظرية تروتسكي آنفة ُ الذِكر . ثمّّ ، وهذا الأمر أكثر خطورة ، هل ستنهض البروليتاريا العالمية بمهمات إقامة صرح الإشتراكية بآليات دكتاتورية البروليتاريا حسب ماركس ولينين وهل تتقبل باقي فئات الشعوب مبدأ الدكتاتورية الذي يتعارض بحدة مع مبادئ الدمقراطية والحرية السياسية وغيرها من أشكال الحريات المعروفة ؟ هل تقبل البروليتاريا العالمية أن تشاركها أحزابٌ وفئاتٌ وشرائحُ أخرى غير عمالية ... هل تقبل أن تتعاون معها في عملية تأسيس النظام الإشتراكي الحقيقي وليس الترقيعي ؟ ثمّة َ سؤالٌ آخرُ قد لا يخلو من طرافة ٍ وفضولٍ : ألا من فُرصة لبرجزة العمال بُناة الإشتراكية وفسادهم الخُلقي والطبقي ورِشوتهم لحرفهم عن مبادئهم وخططهم لبناء النظام العالمي الجديد ؟ لمَ يتبرجز وينحرف ويخونُ قائد شيوعي ٌّ في أعلى قمم السلطة وقيادات الحزب ولا يتبرجز أو يخون عاملٌ من أصول فقيرة محروم ٌ من المالِ والوجاهةِ بعد أن يصلَ إلى مواقع القيادة والمسؤولية وفي يديه السلطة والقوة وكافة أجهزة الدولة المعروفة ؟؟ إني أتخيله مجتمعاً مثالياً طوباوياً لم تبلغه البشرية ُ اليومَ وربما لن تبلغه إلا بعد مرور مئاتِ لا عشرات السنين . هذا من جهة الإنسان ، أما من جهة النظرية الإشتراكية ثم الشيوعية فإني أرى شروط َ إنتصارهما معقدة ً بل وفي غاية التعقيد وإنها بذا أكثرُ طوباوية ً من تركيبة نظام وفكر ومزاج الإنسان !! هل إذا ً يظلُّ الإنسانُ يحلمُ ويسعى لتحقيق حلمه بقيام مجتمع إشتراكي ثم شيوعي ؟ أقول جازماً نعم ، يظلُّ يحلمُ ويظلُّ يسعى لأنَّ في طبيعته البشرية نزوعاً طبيعياً قويا ً للحلم والسعيِّ لأمرٍ ما حتى لو كان هذا الأمرُ غيرَ واضح ِ المعالم مُضبَباً مجهولَ الخاتمة . وإلا كيف نفسِّرُ سعيَ البطل السومريِّ كلكامش للحصول على عشبة الخلود متحدياً خطورة البحار وباقي الصعاب ؟ إنه سعي ٌّ للوصول إلى هدف ٍ ما وللحصول على شيءٍ ما حتى لو كلّفه ذلك حياته . (( وليس للإنسان ِ إلا ما سعى )) .
سياحة ٌ أخرى قصيرة ٌ مع معتوه ٍ متخلف ٍ مشبوه الأهداف !!
إني لأعجبُ كلَّ العَجبِ من قولِ شخص يدّعي فيه أنَّ المجتمعَ الشيوعيَّ مجتمع ٌ خال ٍ من الجمالِ والعدل والمساواة ؟!! أهذه هي عاقبة ونهاية أحلام البشر وأملهم بالتنعم بالجمال والعدل والمساواة ؟ أهذه هي نتيجة كل ما عانى وقاسى البشرُ طوال مئاتِ القرون في سعيهم لتحقيق العدالة الإجتماعية وضمان وكفالة حقوقهم الأولية سكناً وطعاماً ورعاية ً لهم زمن الشيخوخة ؟ مَن منا يتقبلُ مثلَ هذا المجتمع القبيح الظالم وغير العادل ؟ متى توقفت البشرية ُ عن طلب العدالة فإنْ لم تجدها على الأرض فسوف يوفرها الدينُ لها في السماء ... في جنان الخلود حيث النعيمُ المقيمُ والجمالُ جمالُ طبيعة هذه الجنان ثمَّ جمال نسائها وغلمانها ؟ هل من إنسانٍ سوي ٍّ عاقلٍ يرضى بالقبح والظلم في مجتمع تمنّاه وتمنته آلاف الأجيال قبله وناضلت من أجله على مدى القرون والقرون وضحّت وعانت ودخلت السجون وفقد الكثيرُ منهم حيواتهم أو حرياتهم أو مصادرَ رزقهم في أهون الحالات . سأتركُ هذا المجتمع للمعتوهين الموسوسين الفاقدي الإحساس بالجمال لأنه ليس موجوداً فيهم أصلاً وكما قال الشاعر إيليا ابو ماضي :
والذي نفسهُ بغيرِ جمالٍ
لا يرى في الوجودِ شيئاً جميلا
فطبيعي ... أنْ لا يتذوقَ الجمالَ بل وربما يستغربُ ويستكثر وجوده بين الناس على الأرض. يغلبُ على ظني أنَّ هذا الرجلَ مشبوهُ المقاصد فهو يُضمرُ غيرَ ما يُعلن وإنه يدس ُّ السُمَّ في كأس العسل ويُسيءُ للشيوعية والشيوعيين عن عمد ٍ وقصد ٍ وسابق ِ إصرارٍ غبيٍّ يجعلُ منه مسخرة ً وأضحوكة ً للعالمين كأي مهرّج ٍ في السيرك يضحكُ على نفسه قبلَ أنْ يُضحكَ جمهور المتفرجين . ومن هلوسات هذا المعتوه إدعاؤه المشبوه المقاصد أنَّ الإمبرالية الرأسمالية قد إندثرت منذ أواسط عام 1975 !!